من هؤلاء الذين يطاردون القصائد والقصص والروايات ولوحات الفن التشكيلي؟، هل النصوص الإبداعية تحولت إلى شياطين من الإنس والجن معاً، وشكلت كائنات شريرة تستدعي الخوف المسكون بالرعب من إطلالاتها على الحياة نابضة ومشرقة ومتألقة بالجمال أو الحزن النبيل؟.
من هؤلاء الذين يخشون أم الحريات العامة جميعها، حرية الرأي والتعبير والإبداع؟، من هؤلاء الذين يصابون بالهلع من حرية البحث الأكاديمي في مجال العلوم الاجتماعية والطبيعية، ويريدون فرض رقابات عليها، وحبسها في دائرة الصمت ولغة الهمس والسرية؟.
إن كتاب الحرية ومتنه التاريخي والمستمر، يشير إلى أن العالم لم ينتقل من العصور الوسطي وحرائقها ومقاصلها، إلا من خلال إطلاق سلطة العقل الناقد والتأمل والتنظير والبحث والآداب والفنون المعمدة بدماء الحرية والإبداع المتفجر بالحيوية، والتأصيل والنزعة الخلاقة، وكل هذه الأشياء لم تهدم من الدين شيئاً، بل بقي الدين أكثر بكثير مما بقيت، وسيبقى الدين دائماً، وهذه الأشياء تتغير، فلم الخوف المزعوم منها على الدين؟.
إن الانتقال إلى العصور الحديثة والتطور والتقدم والتحديث والحداثة وما بعدها، هي نتاج لحرية الرأي والتعبير والبحث العلمي والأكاديمي، التي فتحت الأبواب واسعة وبلا حدود أمام العقل والفكر والإبداع، لكي يمارس دوره الخلاق في النقد والهدم والقطع مع مواريث الأفكار التقليدية والتاريخية والحديثة ذاتها. عمليات ذهنية وبحثية ترصد وتحلل وتفكك..
وتقوض ما قد يعتقده بعضهم من عقائد ومقدسات وضعية ومحرمات وتأويلات بشرية للمقدس، ما أنزل الله سبحانه وتعالى بها من سلطان في كتبه، ولا في وحيه على أنبيائه، ويحاول البعض أن يفرض سياجات سياسية وأخلاقيات مزدوجة وخاوية، أريد استخدامها سلاحاً لقتل الإبداع، ووأد القصائد، واغتيال القصص والروايات، وهدم الفنون التشكيلية الجميلة.
إن تحولات عصرنا وثوراته المعرفية والرقمية، والانتقال إلى ما بعد الحداثة وما بعد العولمة، واحتمالات التحول إلى ما بعد الرأسمالية الغربية، هي ابنة الحرية الأم، حرية الرأي والتعبير والإبداع، هذه الحرية التي لم تكن يوماً ضد الدين، بل هي جوهر عبادة الله، فلا يقبل إيمان الإنسان بالله، إلا إذا كان عن حرية وقناعة شخصية تامة.
إن كتاب الحرية يذخر بعديد الأمثلة على رفض سلطة التقاليد والعادات والأخلاق البورجوازية لبعض الأعمال الروائية التي باتت من علامات الأدب العالمي، لأنها هتكت الازدواجية الأخلاقية، وخواء البورجوازيات، أو كشفت عن الاهتراء في بنية المجتمع وعلاقاته، على نحو ما فعل فلوبير في مدام بوفاري، وديفيد هربرت لورنس- T H Lawrence 1885-1930- في عشيق الليدي تشاترلي..
وهنري ميللر في مدار السرطان، ومدار الجدي، وثلاثيته، والمغربي محمد شكري في رواية الخبز الحافي. إن استخدام اللغة الجريئة، وفق معايير السلطات النقدية، هي استراتيجية لتشريح البني الأخلاقية الخاوية، أو مدخل لتحليل قوانين الشرط الإنساني المعقد، ومن ثم، هي أحد أشكال السرد الروائي والقصصي والشعري.
إنها كتابة تشكل تحليلاً للبنية النفسية والجسدية والإنسانية ودوافعها وتجلياتها وشفراتها، والأهم إطلالة على الحياة من منظور الحياة إزاء الموت!، أي نحن إزاء مواجهة لأسئلة الوجود، من خلال هذا النمط السردي، وغالباً ما يكون جزءاً من بنية روائية قائمة على التخيل والنظرة الفلسفية واللغة المجنحة، والمجاز، هي لغة صدامية، مع لا أخلاقية بعض القوانين المهيمنة التي تنطوي على الازدواجيات والكذب على الذات، والمراوغات.
لغة نقيض، ومضادة للغة الأقنعة الأخلاقية التي تخفي وراءها أخلاقيات مبتذلة، وشروراً وأذى. إنها كتابة تشريح ونقض وهدم وتحرر وبحث وسعي نحو الوصول إلى معراج التطهير عبر المركب والمتعدد والمعقد والعصي حتى على التنميط، وشروح نظريات علم النفس والاجتماع، لأن الكائن الإنساني في وجوده وتخيلاته وحياته، أعقد وأوسع نطاقاً من التنظيرات والقوانين النفسية والسوسيولوجية..
ومن هنا، تراجعت نظريات ومفاهيم من قبل تأسيس علم النفس، ومروراً بفرويد، ولا كان وما بعدهما، وغالباً ما ستنهار نظريات ومفاهيم، وستصعد أخرى في محاولاتها لفهم السلوك للإنسان/ الفرد.
إن أخطر ما في محاولات اصطياد القصائد والسرديات والإبداعات، والسعي إلى حجبها وفرض القيود عليها باسم سلطة الأخلاق والقيم والدين، أنها تحاول أن تتعامل مع الإبداع السردي، وكأنه هو الحياة الفيزيقية ذاتها، وليس بوصفها سرديات تخيلية، تقوم على المجازات التي تخترق أقنعة لغة الحياة، لأنها حياة في الحياة، حتى ولو كانت تتناول الواقعي والميتاواقعي.
إن كتاب الحرية مفتوح على مصراعيه، في إطار مصاولة الكتاب بالكتاب، والرأي بالرأي، في إطار حرية الرأي والنقد والرأي الآخر، والفكرة بالأخرى، والنظرية والنظرية المضادة، حيث الإبداع والهدم والبناء الخلاق.