الإسلام الوسطي والاعتدالي سمة وهوية الأزهر، ودوره التاريخي، ونزعته للتقريب بين المذاهب. وهذا الأمر منذ بضع سنين يتعرض لتحدٍ كبير يتمثل في تمدد السلفية والنزعة "الإخوانية" بين بعض أساتذته وطلابه على ما ظهر على نحو انفجاري عقب 25 يناير والمراحل الانتقالية الثلاث، وميل بعض هؤلاء الآخرين لمنافسة الخطابات السلفية والراديكالية كجزء من الصراع على المكانة والذيوع والشهرة في المجالات الدينية المصرية والعربية والإسلامية.
لا شك أن ذلك أدى إلى نزاع على الهوية الوسطية والاعتدالية للأزهر، التي هددها نمط من غلو بعض الافتاءات والآراء الدينية المتشددة التي لا علاقة للموروث الأزهري وتقاليده ومصر بها، باعتباره المؤسسة الأم إسلامياً، فالأزهر يقرب ولا يفرق يحاور، ولا ينابذ أو يصارع.
ويواجه الأزهر الجامع والجامعة تحديات كبرى على عديد الصعد، مؤسسياً وفكرياً ووظيفياً، يمكن لنا تحديد بعض هذه التحديات التي تحتاج إلى عقل تجديدي خلاق فيما يلي:
1 ـ هوية الأزهر كمؤسسة وجامعة ودعوة، في ظل تحديات الجماعات الإسلامية السياسية كالسلفيين، والإخوان والجماعات الراديكالية الأخرى كداعش والنصرة والسلفيات الجهادية، الخ، التي باتت تنتقي بعض التفسيرات والشروح والتأويلات الدينية المتشددة والمتطرفة وخطابات العنف المادي والرمزي، والتي باتت تجتذب بعض الأجيال الشابة وتجندهم ضمن منظماتها، وأصبحت من خلال ممارساتها لأشكال من العنف الوحشي، تصوغ صورة الديانة والإيمان والقيم والثقافة الإسلامية الفضلى على نحو عنيف وسلبي إزاء غالب الأديان والثقافات الأخرى، وفي الإدراكات الكونية للشعوب الأخرى وهو ما يتنافى مع الدور التاريخي للأزهر في تقديم إسلام وسطي وإصلاحي يواكب متغيرات العصور المختلفة لاسيما منذ المرحلة الإصلاحية على هدي الإمام محمد عبده وتلامذته، المشايخ مصطفى المراغي، ومحمد عبد الله دراز، ومحمود شلتوت، ومحمود بخيت وآخرين.
2 ـ التناقض الإشكالي بين موروث تأويلي وإفتائي وضعي قديم، وبين أسئلة وظواهر جديدة ومتغيرة ومتحولة، ويعاد إنتاج الإجابات النقلية عليها وهو ما يؤدي إلي إشاعة التوتر الحياتي بين إيمان المسلم المعاصر وسلوكه ومجتمعه وعصره السريع والمتلاحق التغيير.
3 ـ شيوع المنظورات والقيم والثقافة الريفية التقليدية لدى غالب الأساتذة والدارسين والدعاة بحكم جذورهم المناطقية، وهيمنة القيم والعلاقات الريفية في ظل تراجع التصنيع وعلاقاته المركبة منذ عهد السادات، ومن ثم افتقار البعض للمعارف في العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تمدهم بالقدرة على فهم وتحليل الظواهر وما ينجم عنها. من هنا يمكن لنا تفسير ميل بعضهم لا كلهم - إلى شرح الظواهر وتفسيرها على نحو غيبى، تحت تصور سائد ريفياً أن تفسير الظواهر الطبيعية يخضع فقط للتفسير الديني الموروث وليس للبحث والتجربة العملية والعلمية معاً في ضوء نظريات العلم وتغيراتها المستمرة والمتلاحقة، وهذا في حد ذاته يناقض جوهر الدين الإسلامي الحنيف الذي وضع العلم والمعرفة فوق الغيبيات، ونذكر حادثة خسوف الشمس عند وفاة إبراهيم ابن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ومحاولة البعض الربط بين الحدثين، ورفض الرسول لهذا الأمر.
4 ـ ضعف التكوين الثقافي المتنوع لدى بعض رجال الدين نظراً لعدم اجتهادهم في علوم الفقه واقتصارهم على قراءة بعض الكتب دون غيرها، وهو ما يؤدي إلى وهن الحساسية والذائقة اللغوية والأدبية وعدم معرفة منابع التحليل الأدبي الحديثة.
التحديات السابقة تحتاج إلى رؤى تجديدية وعقل إسلامي معتدل ووسطي وتجديدي لكي يستطيع من داخل المؤسسة الأزهرية العريقة أن يواجه تحديات عصرنا، ويعود لدوره التاريخي الكبير في حياتنا وفي مواجهة أسئلة الحياة والسياسة والطبيعة والعلوم المتغيرة على نحو بالغ السرعة والكثافة.