ما زالت مصر تحتفظ بالآمال العريضة في مستقبل مشرق، وما زلنا كمصريين متمسكين بالأمل والتفاؤل مع القيادة التي اخترناها وأعطيناها ثقتنا، لتمضي بنا إلى المستقبل، كل هذا، رغم حياتنا المفعمة بالتوترات والعنف اللفظي والرمزي والمادي، الذي يبدو ظاهراً في مشاهد الحياة اليومية..
وفي علاقات الأسرة والعائلة والزمالة وجماعات الرفاق، كل هذا الحزن العميق، الذي يبدو في ملامح الوجوه، وهذا التواري للابتسامات والضحك الصاعد من أعماق القلب، هذا التراجع للنكات الساخرة المشهورة عن المصريين، التي تعكس النقد اللاذع من أوضاع مختلة ومفارقات وتناقضات اجتماعية وسياسية تولد الضحكات..
والكوميديا اليومية في حياة المصريين، التي تسري عن الأرواح وتمدهم بفائض من الطاقة النفسية على تحمل عسر الحياة واحتقاناتها وتفاقمها، وتحولاتها السريعة، ما الذي أدى إلى تحول الكسل من ظواهر شخصية، إلى حالة شبه عامة؟، هل هو غياب الطلب الاجتماعي والسياسي على العمل كقيمة وواجب ومسؤولية؟، أم هو غياب لتكافؤ الفرص؟
، هل الكسل ناتج عن عدم الكفاءة والتخصص والخبرة والعجز عن الأداء؟!، أم يرجع إلى تخلف علاقات العمل، والعقل والفكر والسلوك البيروقراطي والتكنقراطي، الذي يبدو من ضعف أداء البعض، واضمحلال الخيال والابتكار والإبداع وسطحية الرؤى؟، ما الذي يكمن في ما وراء هذا الاضطراب والسيولة في العلاقات الشخصية والجماعية، وفي علاقات الجيرة؟
، لماذا هذا العنف الصاخب في الشارع، وفي قيادة المركبات العامة والخاصة، وتجاوز قانون المرور.. إلخ؟، حوادث المرور تبدو جنونية، حيث يبلغ عدد القتلى 13 ألف قتيل سنوياً، وأكثر من 40 ألف من المصابين، وخسائرها تصل إلى أكثر من 30 مليار جنيه سنوياً!، هل هي نزعة نحو الانتحار على الأسفلت؟!، أم لا مبالاة بالحياة، وتراجع الاحتفاء بها؟!
رغم كل هذه المشاكل والسلبيات، إلا أن الأمل قائم، وهناك إيجابيات في مؤشرات كبيرة وواضحة للتطور الاجتماعي والسياسي، كامنة في التطور الذي يظهر في العلاقات بين الأجيال في العمل، وفي علاقة الآباء بالأبناء، وفي تطلع الأجيال الجديدة من البنات والفتيات لحركة اجتماعية جديدة، قادرة على إحداث تغيير عميق في وضعية المرأة..
ومواجهة ذكورية الدولة والأسرة والمجتمع، وهناك مخاضات تتشكل الآن في النظام الاجتماعي، والعلاقات بين المصريين بعضهم بعضاً، وبينهم وبين الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، وهي تؤشر إلى الإيجابيات المتوقعة، والتي ستحدث خلال الأجلين المتوسط والبعيد.
من المتوقع، وصول عدد السكان في مصر إلى 100 مليون نسمة في نوفمبر 2016، وارتفاع معدلات المواليد في الصعيد 40 % من إجمالي المواليد في بقية محافظات مصر، ما أدى إلى أن المجتمع بات أكبر وأضخم من الأجهزة والإمكانات الموجودة في الدولة. وقد أدت الانتفاضة الثورية وتحركات 30 يونيو الجماهيرية، إلى انكسار حواجز الخوف لدى غالبية المصريين وأجيالهم الشابة، بكل انعكاسات ذلك المستقبلية على موت السياسة إمكانية إحيائها.
كما ساهمت ثورة وسائل الاتصال ومواقعها الاجتماعية وعالمها الرقمي المتعدد، إلى بناء قوة ضغط مؤثرة، وفي سرعة نقل الأخبار والمعلومات، وفي إشباع الرغبات في التعبير عن الآراء، وفي بناء روابط من الصداقات الافتراضية، وإلى تشكيل مجموعات على الواقع الافتراضي ذات اهتمامات سياسية وفنية وأدبية ودينية ومذهبية... إلخ.
لا ننكر أن هناك ثمة بعض الانفراط لعقد الدولة الأبوية والرعائية، ومعها على الصعيد الاجتماعي، ذكورية العائلة والأسرة، ونمط قيادتها الذكوري التقليدي.
وثمة بروز تباينات بين الأجيال داخل الأسرة الواحدة بين الأطفال والآباء والأمهات، ساعد عليه ثورة الهواتف الذكية، وغيرها من أدوات الثورة الرقمية، وامتدت إلى الآباء..
وأصبحت الأسرة فضاء لعوالم واهتمامات مختلفة، وتوجهات متعددة، ولغات وأوصاف ومعايير وإدراكات تبدو متباينة في غالبها، على نحو ساعد على بروز الخصوصيات الرقمية والشعورية لدى غالب مكونات الأسرة، ناهيك عن تداخل الجميع في شبكات اتصالية متعددة، والتحرك على مواقع سياسية وتكنولوجية، وقيم متعددة على الصعد الإقليمية والكونية.
كل هذه العمليات، تسهم بقوة وحركية غير مسبوقة، في تشكل عمليات ميلاد الفرد المصري، والعربي عموماً، وهو ما سوف يشكل نقلة نوعية، أو ثورة هائلة وإيجابية تماماً في تكوين مصر والعالم العربي..
على الرغم مما يبدو من اضطراب وفوضى، وكآبة، وكسل، وعنف، وتفاهة في مشاهدنا اليومية المضطربة، ثمة شيء إيجابي واضح في الأفق المصري المضطرب، ويتحرك في ما وراء المخاض الكبير، داخل السيولة والصخب الراهن.
لقد ظل الميلاد المتعثر للفرد كإرادة ومشيئة وخصوصية، أحد أبرز العوائق البنيوية والاجتماعية والثقافية، إزاء التطور نحو الفردية والتحول الديمقراطي وإصلاحات نوعية في النظام الاجتماعي، وكرس ذلك، انهيار مشروعات التصنيع والتنمية، إلا أن انتفاضة 30 يونيو، وتآكل سطوة الأبوية السياسية والاجتماعية، مع تطور الثورة الرقمية، تسرع الآن عمليات ميلاد الفرد، كمدخل لإعادة بناء البشر الأحرار، والمجتمع الحر في مصر الجديدة.