خوف عارم وجامح في بعض المجتمعات العربية التي لم تستطع دولة ما بعد الاستقلال وسياساتها الاجتماعية، واستراتيجياتها القسرية في بناء التكامل الوطني..أن تنتج موحدات جامعة تتجاوز الانتماءات الأولية إلى مكونات التعدد على اختلافها.

بعض تجارب النهوض التنموي والتحديثي الكبرى في آسيا اعتمدت على توظيف فائض الحيوية الاجتماعية للتعدد الديني والعرقي، واحترام قيمة العمل في بناء اقتصاداتها وتحولاتها الكبرى، من خلال الأقليات الآسيوية والهندية، وإتاحة الفرص أمامها لإحداث نقلة نوعية في هذه المجتمعات.

ولم تنظر إلى معيار الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي كأداة للتمييز بين مواطنيها واعتماده كمعيار إقصائي واستبعادي لهم، وإنما كانت حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، جزء لا يتجزأ من حقوق المواطنة والمساواة بين المواطنين جميعاً، في التعليم والعمل والفرص الاجتماعية، في ظل احترام الأديان والمعتقدات أياً كانت- دونما حجب لمظاهرها وتجلياتها الاجتماعية والسلوكية في الحياة اليومية.

هذا النمط من ثقافة التعايش المشترك، والإدارة الرشيدة للتعددية الدينية والمذهبية والعرقية.. إلخ.

دونما قسر وإرغام، هو الذي ساهم في توليد ديناميات اجتماعية وثقافية ورمزية، استطاعت بناء ثقافة التعايش المشترك بين المختلفين ديانة ومذهباً، من خلال نماذج للتنمية والتحديث اعتمدت على توطين التكنولوجيات المتطورة في إطار الثورة الصناعية الثالثة وما بعدها، من الثورات الرقمية، على نحو أدى إلى بناء شبكات جديدة من العلاقات الاجتماعية، والوعي الاجتماعي، وإدراك معاني جديدة للزمن، ولدور التقنية في الحياة اليومية ومعانيها.

خذ على سبيل المثال بعضاً من تجارب ماليزيا، وسنغافورة، وأندونيسيا في هذا الصدد، في حين أن تجربة الديمقراطية الهندية، استطاعت أن تولد نموذجاً متميزاً في إدارة التعدد والتنوع الديني والمذهبي والعرقي والمناطقي كنتاج للثقافة السياسية الديمقراطية وشيوعها وتحولها إلى نظام للقيم والمؤسسات والرموز والسياسات والآليات التي تحمي التعدد والتنوع، وتديره رغماً عن كل المصاعب والعوائق والمواريث الاجتماعية، في رشاقة ورشد سياسي، والأهم بناء منظومات من الموحدات الكلية والجامعة للأمة الهندية.

ساعد على توليد وبناء أنسجة وعلامات ورموز الأمة الواحدة حركة التنمية والتصنيع والتعليم المتطور، وحماية الحريات الدينية وحقوق المواطنة ومعها الحريات العامة السياسية والاجتماعية والشخصية، وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير بوصفها أم الحريات العامة.

لا شك أن التطور الفائق للهند يقف وراءه اتساع قاعدة التعليم والبحث العلمي وحرياته، ومعها اختراق الثورة الرقمية والإبداع الهندي داخلها وهو ما أدى إلى اتساع قاعدة الطبقة الوسطى 420 مليوناً من أصل 1.2 مليار نسمة، وبعض التقديرات تشير إلى أن 90% من سكان الهند سيصبحون من الطبقة الوسطى عام 2039.

وستغدو الطبقة الوسطى الهندية أكبر طبقة وسطى في العالم عام 1927-، لا شك أن وراء ذلك التصنيع والرقميات، وتشكل هذه الطبقة الوسطى الديناميكية أدى إلى تقلص حدة التوترات الدينية والمذهبية، من خلال التعليم وإدارة التعدد، والحراك الاجتماعي، وثورة الاتصالات الهند ثاني أكبر سوق للهواتف الذكية في العالم وتمثل 11% من السوق العالمية-، وهو ما أدى ولايزال إلى تصدع نظام الطبقات الهندية التقليدي والتاريخي، وتبلور الطبقات بالمعنى السوسيولوجي الحديث.

العنف ذو الوجوه الدينية والطائفية في بلداننا العربية يعود إلى عديد الأسباب وعلى رأسها: تآكل الموحدات الوطنية، وتراجع حركة التصنيع، وترييف ثقافة المدينة والمدن وأجهزة الدولة، والأخطر هيمنة الأيديولوجيا السياسية المتشددة، والمتطرفة التي تريد السيطرة على المجال العام انطلاقاً من المجال الديني..

وإحداث فرز رأسي بين المواطنين وبعضهم بعضاً، من خلال إشاعة الكراهية والتكفير وإنتاج معازل دينية شبه مغلقة. والأخطر الدور السلبي لبعض الدعاة ورجال الدين في إشاعة التعصب الديني، ومعهم بعض مدرسي ومدرسات وزارات التعليم في وطننا العربي... إلخ، وغياب سياسة لإدارة التنوع والتعايش الديني، وتراجع قانون الدولة لصالح قانون الأعراف والقوة والمكانة والنفوذ.

من ثم أحد أبرز المقاربات الكلية لمواجهة العنف ذي الوجوه الدينية والطائفية، يتطلب حزمة سياسات على رأسها التوعية الدينية الوسطية السمحة، والعودة إلى سياسة التصنيع واتساع الثورة الرقمية، وامتدادها إلى الأرياف، بهدف كسر العلاقات والقيم التقليدية، وتطوير سياسة التعليم جذرياً.

من ناحية أخرى تطوير منظومة القوانين الحديثة والمعاصرة في ضوء التطور في مبادئ المواطنة والحريات الدينية في النظم القانونية المقارنة، وأعمال وتطبيق وتفعيل قانون الدولة لكافة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية.