النخبة السياسية والثقافية العربية عليها أن تتابع بعمق ودقة مآلات الزلزال البريطاني وتصويت غالب الناخبين على خروجها من الاتحاد الأوروبي، وذلك على الرغم من خصوصية علاقة بريطانيا بالاتحاد وأفكار الوحدة الأوروبية..

وذلك من خلال تحليل طبيعة هذا الحدث السياسي الاستثنائي في تطور بعض أشكال التنظيم الدولي والمنظمات الدولية وانعكاسات ذلك على الجامعة العربية، وذلك من خلال استيعاب طبيعة التغيير الجديد، وذلك على النحو التالي:

العلاقات بين الأجيال داخل كل مجتمع ودولة عربية، حيث تبدو الفجوات الجيلية أحد أبرز الانقسامات الاجتماعية بقطع النظر عن انتماءات الأجيال الشابة على مستوى الهيكل «الطبقي»، أو الفئات الاجتماعية.

لأن هموم وتطلعات كل جيل من الأجيال الشابة باتت تختلف عن الأجيال الأكبر سناً، سواء على مستوى تصوراتهم وإدراكاتهم للسلطة، والسياسة، والقيم، ورؤى العالم، وعلاقة «الشخص» أو «الفرد» –لازال في طور التشكيل كمشيئة وإرادة وخصوصية وفاعلية في المجتمعات العربية- بالدولة، والنخب الحاكمة أو المعارضة، وهي إدراكات ومواقف باتت تتسم غالباً بالرفض والتمرد.

الحدث الزلزالي البريطاني كشف عن الفجوة بين الأجيال في بريطانيا حول تصوراتهم لمستقبل بلادهم، وصوت 75% من الشباب لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، بينما الأجيال الأكبر سناً ذهبت نحو خيار الخروج، إعمالًا لتصوراتهم حول مصالحهم، ومخاطر الهجرة والأمن ومشاكل الاقتصاد، والأهم هو تصويت عقابي إزاء سياسة الترهيب وإشاعته من النخبة السياسية –حزبي المحافظين والعمال- للمواطنين .

وفي ذات الوقت نزعة الاستعلاء النخبوي، وخطابها المعزول المكتفي بذاته ورؤاه وخبراته البيروقراطية الفوقية التي تصف غالبية المحكومين بأنهم أسرى النزعة والثقافة الشعبوية، في ازدراء واحتقار لقواعدهم الاجتماعية العريضة من مؤيدي الأحزاب الكبيرة، التي باتت تعاني من أزمة في عقلها وخطابها السياسي والاجتماعي، وتعاني من عزلة نخبوية.

من ناحية أخرى كان التصويت عقابياً لنخبة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته البيروقراطية، وطبقة الموظفين الدوليين وذهنيتهم الاستعلائية، وفرضهم لسياسات وقرارات على الشعب البريطاني، وشعوب الاتحاد دون أن تكون لهم شرعية مؤسسة على الانتخاب الحر المباشر لهم!

من هنا تبدو أهمية مسألة تجديد وتجسير الفجوات بين الأجيال السياسية والاجتماعية العربية، ومأسسة حوار دائم ومستمر على عديد الصعد السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والمذهبية، حيث تتسع الفجوات، ويتجمد العقل السلطوي وتضطرب السياسات والأداءات، ويتراكم الفشل وتزداد الاحتقانات، وتتكالب الأزمات، والصراعات بين الأجيال، والفئات الاجتماعية والمكونات الأساسية للمجتمع.

التصويت العقابي ضد النخبة السياسية البريطانية، وبيروقراطية بروكسل غير المنتخبة، تشير إلى عزلة المنظمات الدولية على مستوى قطاعات اجتماعية كبرى داخل مجتمعات الدول الأعضاء، وإذا قارنا بيروقراطية بروكسل، وبيروقراطية الجامعة العربية ومنظماتها الفرعية..

فإننا سنجد أن الجامعة لم تتمكن من إقامة جسور وهوامش مستقلة لحركتها وأنشطتها بعيداً عن الدول الأعضاء، ومن ثم باتت تفتقر إلى قاعدة واسعة من التأييد الشعبي العابر للدول الأعضاء، من هنا تحتاج الجامعة إلى تطوير جذري وتجديد في رؤاها، وهياكلها ونخبها وعمالتها وسياساتها، واستنبات شرعية شعبية لها، تعطي لها هوامش حركة ودينامية جديدة.

تصويت أيرلندا الشمالية واسكوتلندا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، وبروز رغبة كليهما في إجراء استفتاء للانفصال عن بريطانيا، يشير إلى احتمالات تفكك واحدة من أهم نماذج الدولة/ الأمة التاريخية في عالمنا، وهو ما يشير إلى أزمة النموذج من ناحية بين عولمة نيو ليبرالية وحشية وجامحة، والرغبة في استقلالية القرار الوطني بعيداً عن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي!

إذا استمرت هذه النزعة، فنحن إزاء حالة من التشظي الهيكلي في نسيج الدولة/ الأمة بفعل عالم ما بعد الحداثة الذي يميل إلى إنتاج التشظيات حول مكونات رمزية وتاريخية ومصالح لبعض المكونات بعيداً عن الانتماء القومي والموحدات الكبرى العابرة للمكونات الرئيسة لاسيما بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وسقوط حائط برلين وما بعد.

عالمنا العربي في بعض دوله ومجتمعاته يبدو أحد مرايا فشل بناء الدولة/ الأمة، ونزعة الإقصاء القسري للمكونات، والطابع الطائفي والمذهبي لبعض هذه الدول ونخبها السياسية، ومن ثم تزداد الطائفية والمذهبية المسيسة في الإقليم، وتدفع نحو تغيير في خرائطها السياسية، واحتمالات التفكك الجاثم في الأفق.

دولنا وسياساتنا ونخبنا وهياكلنا وأجيالنا العربية تحتاج إلى تأمل الزلزال البريطاني واستيعابه من أجل سياسة جديدة لإعادة التكيف واستيعاب تغيرات عالمنا العاصف بالتحولات الجديدة.