استكمالاً للحديث السابق عن الاقتصاد المصري وآفاق المستقبل، تجب الإشارة إلى أنه مع الاعتراف بأن أي سياسة سكانية لضبط الزيادة الكبيرة في عدد السكان لن تؤتي آثارها خلال فترة قصيرة، ولذلك فإنه لا مناص من زيادة الاستثمارات الأجنبية لتعويض النقص في الادخار المحلي.

ولمصر تاريخ طويل مع رأس المال الأجنبي، وليس كله تاريخاً حميداً. فالمشهور هو ديون الخديوي إسماعيل (في القرن 19) التي لم تنفق على زيادة الطاقة الإنتاجية بقدر ما أنفقت على أنواع الاستهلاك التفاخري ببناء القصور وأسباب الأبهة، بأكثر مما أنفق على المشروعات الإنتاجية.

وقد تعلمت مصر الدرس، وحافظت بعد تجربتها المريرة مع ديون الخديوي إسماعيل وحرصت على عدم الاستدانة، وحققت دائماً فائضاً في موازنتها. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية كانت مصر دائنة لإنجلترا بما يقرب من أربعمائة مليون جنيه استرليني.

ولم تعد مصر إلى الاستعانة بالمعونات الأجنبية إلا في نهاية الخمسينيات وحيث كانت مصر تشتري القمح من الولايات المتحدة بالجنيه المصري وتدفعه لهيئة المعونة الأميركية التي كانت تستخدم هذه الحصيلة في تمويل العديد من المشروعات الزراعية والإنشائية.

وبعد ذلك جاء تمويل السد العالي بقرض سوفيتي، ثم المساعدات العربية من خلال مؤتمر الخرطوم بعد 1967، كما حصلت على مساعدات عربية بعد 1973، ومع التصالح مع إسرائيل تعهدت الولايات المتحدة بتقديم معونة أميركية تستخدم أساساً للتسليح.

وعندما نتحدث عن الاستثمار الأجنبي لتعويض نقص المدخرات المحلية ـ فليس هذا تكراراً للتجارب السابقة، بقدر ما هو إتاحة الفرصة للاستثمار الأجنبي بإقامة مشروعات في مصر لخدمة التصدير استفادة من موقعها الجغرافي وتوافر الأيدي العاملة الرخيصة. ويمكن أن تكون منطقة قناة السويس مؤهلة لمثل ذلك.

ورغم ما ارتبط بالاستثمارات الأجنبية من تجارب صعبة، فإن نجاح العديد من دول جنوب شرق آسيا في جذب استثمارات منتجة يمكن أن يكون مثالاً نافعاً المشكلة هي أنه مع انخفاض المدخرات المحلية، فإنه لا مناص من دعوة الاستثمار الأجنبي وتشجيعه مع وضع الضوابط المناسبة واستكمال بناء البنية الأساسية.

وإيجاد المناخ القانوني المناسب للتوفيق بين المصالح الخاصة للاستثمارات الأجنبية من ناحية، والمصلحة العامة للاقتصاد المصري في زيادة فرص العمل وتوفير الموارد الأجنبية اللازمة من ناحية أخرى. وهناك أمثلة وتجارب عديدة لدول نامية استطاعت أن تجذب استثمارات أجنبية كبيرة مع الحفاظ على المصالح الوطنية.

ومن المهم التصنيع سواء لإحلال الواردات أو من أجل التصدير، حيث لا توجد صناعة للتصدير فقط أو لإحلال الواردات فقط، فهناك دائماً احتمالات متعددة، ولكن التوجه العام للصناعة قد يكون أساساً للسوق المحلي، أو على العكس يتجه بشكل كبير للأسواق الخارجية. ولا يمكن إبداء الرأي بأن أحد الاتجاهين صالح، وأن الآخر طالح. فالأمر يتوقف على ظروف كل بلد.

وباستثناء تجربة إنجلترا في التصنيع، التي سبقت العالم باعتبارها أول من بدأ الثورة الصناعية، فإننا نجد أمثلة ناجحة لكل من الاتجاهين.

ويمكن هنا أن نقارن بين نموذجين للتصنيع في كل من الولايات المتحدة واليابان، وكلاهما بدأ عصر التصنيع في أوقات متقاربة، وهي النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أما الولايات المتحدة، فنظراً إلى أنها أقرب إلى القارة التي تتمتع بكل الموارد الطبيعية، فقد كان من المنطقي أن يكون توجه الصناعة الأميركية، في أول الأمر هو إشباع حاجات السوق المحلية.

أما اليابان، فهي على العكس لا تكاد تتمتع بأي موارد طبيعية. ولذلك قامت صناعتها منذ البداية من أجل التصدير، ومع الاعتماد على الأسواق الخارجية، فإنها قد وجدت نفسها مضطرة للاحتفاظ بأكبر قدر من الكفاءة حماية لأسواقها في الخارج. فالتصدير يفرض على الدولة الالتزام بالكفاءة في نوعية الإنتاج مع الثمن المنافس حماية لأسواقها في الخارج.

وإذا نظرنا إلى التجارب الناجحة حديثاً، فإننا نجد أن معظمها قد اعتمد على التصنيع من أجل التصدير، يستوي في ذلك الدول ذات الموارد المتعددة مثل الصين أو الهند، والدول الصغيرة محدودة الموارد الطبيعية مثل كوريا الجنوبية أو تايوان. وإذا عدنا إلى مصر، فقد بدأت التصنيع منذ الثلاثينيات من القرن الماضي،

وكانت مصر حينذاك تحقق فائضاً في الصادرات الزراعية مما وفر لها دخلاً كبيراً من العملات الأجنبية. ومنذ الستينيات من القرن الماضي، اتجهت مصر بقوة إلى التصنيع لإحلال الواردات. وفي الوقت نفسه، بدأ الفائض الزراعي يتآكل، وتحولت الزراعة من ممول للاقتصاد بالعملات الأجنبية إلى عبء على ميزان المدفوعات.

ومع نقص الموارد الطبيعية في مصر، فإن قيام الصناعة رهن باستيراد العديد من الموارد الأولية والوسيطة، فضلاً عن قطع الغيار والآلات. وهكذا تصبح الصناعة عبئاً على ميزان المدفوعات. فهي مضطرة لتحمل مصاريف الإنتاج بالعملات الأجنبية، في حين أن ما تحققه من عوائد البيع هو بالعملة المحلية، لأنها تعتمد علي السوق المحلية كأسواق..

وهكذا تواجه الصناعة العديد من المشاكل بسبب نقص العملة الأجنبية، والاضطرار إلى البحث عن أساليب محلية أقل كفاءة كعلاج لحاجاتها إلى قطع الغيار، وأحياناً الموارد الأولية والوسيطة.