يشكل التمييز، أحد معوقات بناء الوحدة الوطنية، ويُعسر عمليات تشكيل ثقافة المواطنة وحقوقها وواجباتها في إطار دولة القانون الحديثة، والمساواة بين المواطنين، وأحد أكبر الأخطاء السياسية في بناء أي دولة ما بعد الاستقلال، أنها تركز في بناء الموحدات الوطنية على قوة القمع المشروع المحتكر بواسطة الدولة، في فرض استراتيجيات للتكامل الوطني، تعتمد على بوتقة الصهر، وتوظيف أقسى درجات العنف المادي والرمزي، لتشكيل وفرض منظومة من الرموز والموحدات القسرية، بقطع النظر عن التعدديات في مكوناتها الأساسية – الدينية والمذهبية والعرقية والقومية والمنطقية – والتي تشكل مصادر للثراء والغنى الإنساني والثقافي، لقد أدركت نخب ما بعد الاستقلال في العديد من الدول، التعدد في المكونات الأولية، بوصفه تعبيراً عن ضعف بنيوي وهشاشة في تكوينها السياسي، وأن القمع المادي والرمزي هو السياسة الأكثر نجاحاً في إنتاج الوحدة الوطنية. هذه الاستراتيجية صاحبتها أنظمة وسياسات ومناهج تعليمية، قامت على تسييد بعض التحيزات والإقصاءات، في إطار سردية تاريخية متحيزة، تحاول إخفاء السرديات التاريخية الأخرى لدى كل من مكونات المجتمع المتعدد، وفرض رؤية رسمية لتاريخ المجتمع والدولة.

لم يستطع عنف أجهزة الدولة، أي دولة، المشروع، واللا مشروع في عديد الأحيان, أن يبلور ذاكرة وطنية عابرة للمكونات الأولية. الأهم أن منظومة الرموز والأخيلة والموحدات القسرية، لم تستطع أن تؤسس لتفاعلات وأطر تشاركية ومؤسسات سياسية وثقافية، تسمح بتوليد طوعي لموحدات كبرى، ترتبط بها المكونات الأولية، وتؤدي إلى تشكيل قومية، ومن ثم أمة واحدة، في إطار الدولة الحديثة. إن نظرة على الأوضاع المضطربة، في بلداننا العربية، تشير إلى فشل استراتيجيات بوتقة الصهر بقوة القمع المشروع أياً كان، والأخطر، فشل دولة ما بعد الاستقلال، التي اختزلت في الرئيس، لقد برزت ظاهرة شخصنة السلطة ومؤسسات الدولة الوليدة بعد الاستقلال.

تجلى التمييز كسياسة، وتحول إلى ثقافة في نظام التجنيد السياسي للمواقع القيادية في العديد من الدول عند قمة النظام السياسي الشمولي والتسلطي، أو في أجهزة الدولة. تمدد التمييز وفق معايير متعددة، إلى الدساتير والقوانين واللوائح والقرارات الإدارية، والأخطر، تحول إلى جزء من تقاليد تفكير وعمل أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية، ومن ثم، لم تستطع الدول والمجتمعات في أعقاب الاستقلال، أن تؤسس لقيم وأخلاقيات وثقافة مدنية داعمة للمواطنة والمساواة وحكم القانون الحديث.

الأخطر، أن سياسة التمييز التي تمارسها أجهزة بعض الدول العربية طيلة أكثر من خمسين عاماً، مضت، وإلى الآن، أدت إلى تحول التمييز الديني والاجتماعي والنوعي الذكوري، إلى مكون رئيس في تشكيل ثقافة بيروقراطية الدولة، التي يميز بعضهم فيها ضد بعض فئاتها، وإلى تمدد الفكر السلفي والإخواني داخل هذه الأجهزة، وفي وسط المدرسين والمدرسات في التعليم العام، بل وامتد إلى بعض أساتذة الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة!، من هنا، نستطيع فهم لماذا تتكرر التوترات الطائفية، وتفشل الحلول التي تقدمها بيروقراطية الدولة لمعالجتها؟، والعودة إلى آليات ثبت عدم نجاحها، كالمجالس العرفية والتلكؤ في التطبيق الصارم للقانون على بعض العابثين بوحدة الأمة، تحت وهم قوة قانون الأعراف، والأكثرية إزاء الأقلية، الذي يحطم وحدة شعوب الدول.

إن تكرار الأزمات الطائفية واحتقاناتها خلال فترات وجيزة أو متوسطة، تشير إلى فشل ذريع لهذه المعالجات، وأن تكرارها هو فشل آخر للتعليم الديني، والمدني المهجن بالديني في وزارات التعليم في بلداننا العربية، وأن الثقافة الدينية المناهضة للمواطنة ودولة القانون والتعايش المشترك، هي إنتاج للمؤسسات الدينية الرسمية، والجماعات السلفية والدينية والإخوانية على اختلافها، وأن المناورات التي تتم في هذا الصدد، لم تعد صالحة على الإطلاق لمواجهة أشكال متعددة لكسر وحدة الأمم والدول، وإضعاف الموحدات الوطنية العابرة للمكونات الدينية والمذهبية والمنطقية والاجتماعية.. إلخ!، إن مواجهة هذه المشكلات الطائفية لا بد أن تتصدى لها الدول بالقانون، وبحسم. وهنا، لا بد من اتخاذ ما يلي من إجراءات:

1- إعداد مناهج للتعليم، تعتمد على تكريس المواطنة في جميع مراحل التعليم.

2- ورش عمل لتدريب رجال الدين والمدرسين والمدرسات.

3- إنشاء مجالس وطنية لشؤون الأديان، يشارك فيها شخصيات عامة مستقلة، مع رجال الدين ذوي النزعة الوسطية التجديدية، والانفتاح على الواقع والعالم.

لم يعد لدينا في مجتمعاتنا العربية، ترف إعادة إنتاج سياسة التمييز وسلوكياتها التي تعيد إنتاج التفكك، وإضعاف سيادة القانون، كفى تهاوناً مع العابثين بوحدة الدول والأمم.