المجتمع المصري يحصد الثمار المرة للتواطؤات التاريخية بين النخبة السياسية الحاكمة منذ أكثر من ستة عقود مع بعض مكونات الحركة الإسلامية السياسية؟ هل نحن إزاء أثمان سياسية واجتماعية ندفعها الآن كنتاج للمناورات التي كانت موجودة بين بعض الجماعات الإسلامية وبعض أجهزة الدولة المختصة على مدى نصف قرن مضى؟ هل كانت تدرك عناصر النخبة وتركيبة الدولة البيروقراطية المخاطر الجمة التي يمكن أن يتعرض لها الأمن والاستقرار في البلاد على نحو يفاقم من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى واحتقاناتها؟

نستطيع القول إن تاريخ علاقة الدين والدولة والنظام التسلطي على مدى العقود الخمسة الماضية، أدى إلى تديين نسبي للمجال العام، لاسيما في ظل التوظيفات السياسية الذرائعية لبعض التأويلات والتفسيرات الدينية الوضعية، في بناء نظام الشرعية السياسية التي اعتمدت على القوة العضوض، ولم ترتكز على القيم والآليات والثقافة السياسية الديمقراطية، ومن ثم استخدمت النخبة الإسلام لإضفاء شرعية على ممارساتها التسلطية، التي أدت إلى إنتاج نمط من التسلطية الدينية التي تكرس مفاهيم الإجماع القسري بين المكونات السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية والمناطقية في البلاد، بديلاً عن إدارة ديمقراطية تشاركية، فيما بين بعضها بعضاً، وداخل مؤسسات الدولة وأجهزتها، وفي المجال العام السياسي المحاصر والديني السائل.

لا شك أن هذا الإدراك السياسي البيروقراطي لدور الدين في السياسة أدى إلى خلق بيئة ملائمة لإحياء وإعادة إنتاج الفكر والتأويلات الفقهية والإفتائية المحافظة والمتشددة التي تمددت داخل بعض الشرائح الاجتماعية في القرى والمدن بطول البلاد وعرضها، وفي السياسة والمناهج التعليمية والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، الذي ساهم بفعالية منذ نظام السادات وطيلة حكم حسني مبارك، وما بعد 25 يناير 2011، حتى قيام ثورة 30 يونيو، أدى إلى إنتاج أرضيات اجتماعية خصبة لتمدد وانتشار الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية، وبناء بعضها لشبكات اجتماعية حلت محل تراجع السياسات الاجتماعية للدولة، وترك المعسرين من المصريين لهذه الجماعات - الإخوان والسلفيين -، ومن ثم استطاعوا إحداث تغيير نوعي في أنماط التدين المصري - الإسلامي والمسيحي - وتحوله من الاعتدال والتسامح والوسطية إلى نمط عنيف يتجلى في الخطابات اليومية، وفي العلاقات والرموز، ونظام الزي والطقوس وبناء الحواجز النفسية بين أبناء الأمة الواحدة على نحو أدى إلى إنتاج تحولات في المؤسسات الدينية نحو التزمت والمحافظة المفرطة التي باتت تبدي صراعاً وتشكيكاً حول سماحة الدين الإسلامي الحنيف، وحول تاريخ الدولة الحديثة، وإنجازاتها في مجالات التحديث، أو في أشكال الحداثة الثقافية والقيمية المبتسرة.

تواطأت النخبة الحاكمة، طيلة العقود الماضية، في عديد الأحيان مع المؤسسة الدينية، ولم تولى عناية خاصة لإصلاح وتطوير سياساتها التعليمية والدعوية والإفتائية، وغضت النظر عن نزوع بعض رجال الدين إلى نمط من السلفية، والنزوع الإخواني، وتمددهم داخل المؤسسة - 30% من هيكل العضوية من الأزهريين داخل التنظيم - على نحو ما ظهر قبل وبعد 25 يناير 2011.

ووجد الإخوان المسلمون، والسلفيون في الريف المصري وثقافته ملاذاً وبيئة ملائمة وطيعة للدعوة والتجنيد السياسي والدعوي لعديد من الموظفين العموميين، وخلق قاعدة تأييد وتعاطف داخل هذه الأجهزة، في الوزارات والمصالح الحكومية، وفي وزارة التعليم والمدارس والجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة، وبات هؤلاء يمارسون أشكالاً من التشدد والتطرف في ممارساتهم البيروقراطية، وتجسدت هذه الظاهرة شبه الجماعية في مجال التمييز الديني ذي النزعة الطائفية إزاء بعض المواطنين المصريين الأقباط على نحو ما تحفُل به التقارير والبحوث المتخصصة في هذا الصدد، وتحولت هذه الممارسات على مدى العقود الماضية إلى ثقافة تمييزية مضادة لمفاهيم المساواة والمواطنة ودولة القانون وسيادته.

تمدد التمييز الديني إلى الوظيفة العامة، وبعض مستوياتها القيادية العليا التي حجبت عن بعض مستحقيها لأنهم أقباط، أو مسلمون ولكن ليسوا مقربين من الجماعات السلفية والإخوانية، والأخطر تواطؤ بعض عناصر في أجهزة الدولة البيروقراطية والمحليات مع بعض الغلاة في بعض القرى والمحافظات، الذين يقومون بأعمال ذات طبيعة تمييزية وطائفية، وتصل إلى مستويات القتل والضرب والجرح وحرق الممتلكات وإتلاف المزروعات.. إلخ! الأخطر أن بعضهم ينوب عن الدولة في مراقبة السلوك الديني، وهذا ليس دور بعض محرضي العوام وآحاد الناس، وإنما دور الدولة وأجهزتها المختصة.

ثمة مخاطر جسيمة تلحق بالموحدات القومية المصرية من جراء الشعور الجامح للاستقواء بقانون القوة العددية من بعض محتسبي الطرق الطائفيين، وترك المجال أمامهم للتأثير على الجمهور من العامة، ويستغلون شيوع الأمية، في تحريك هؤلاء وتشجيعهم على الاعتداء على إخوتهم في الوطن.