لا معنى ولا وزن ولا سطوة ولا ردع للقانون إلا في تطبيقه في تفاصيل الحياة اليومية، وتنظيمه للسلوك الاجتماعي، ومساهمته في تغيير منظومات القيم والتقاليد البالية التي اعتاد عليها المواطنون، لاسيما في المناطق الريفية..
وفي أوساط الشرائح الاجتماعية العريضة في قيعان المدن المريفة وهوامشها العشوائية، حيث تسيطر القواعد العرفية والقيم التقليدية والازدواجية في السلوك، والأقنعة الدينية والمذهبية لتحولات التدين الشعبي ومعه تغلغل بعض المفاهيم والتأويلات الانتقائية للقيم والقواعد الدينية وتأويلاتها اللا تاريخية، التي تم بثها بين الجمهور الريفي..
وفي الهوامش الحضرية المشوهة، تحت حراسة بعض كبار موظفي الدولة، وذلك تحت سطوة وهم ساد في النظام أن هذه الجماعات دعوية، ولا علاقة لها بالعمل السياسي المباشر، وأنها سند للنظام وداعم لشرعيته، لأنها لا تهتم سوى بدعوة المسلمين إلى القيم والسلوكيات الإسلامية الفضلى.
وهو وهم لا يزال يخايل بعضهم في أجهزة الدولة، لأنهم يوظفون بعض كبار الدعاة في أداء أدوار سياسية في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية الراديكالية، في ظل تراجع دور المؤسسة الدينية الرسمية..
وعدم قدرتها على مواجهة الفكر الديني المتشدد، أو التطرف العنيف وأشكاله المتعددة وعلاماته ورموزه، أو مقاومة الخطابات العنيفة والمحرضة على الطائفية أو انتهاك أحكام قانون الدولة... إلخ. هذا الوهم السياسي والديني تناسى أن هذه الجماعات استطاعت أن تتمدد داخل المؤسسات الدينية الرسمية في بلداننا العربية، ومعهم الإخوان المسلمون.
إن مواجهة الفكر المتطرف والعنيف يحتاج إلى سياسة دينية تميل إلى التسامح والوسطية والتجديد، وشحذ روح الاجتهاد الموضوعي الذي لا يشت ولا يتناقض مع ثوابت الدين وأحكام الشريعة، وباعتبار أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان فإنه تجب الاستجابة إلى أسئلة اللحظة التاريخية في العالم المتغي.
من ناحية أخرى يجب أن تعي النخب السياسية الحاكمة وأجهزة الدولة في بلداننا العربية أن مواجهة التطرف تحتاج إلى حزمة متكاملة من السياسات والأدوات الدينية والاقتصادية التنموية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والإعلامية والأمنية، ترمي إلى تحسين أوضاع الفئات الأكثر فقراً والمهمشين والمستبعدين من النظام الاجتماعي والتعليمي، ومواجهة الفكر الخرافي الشعبي وأساطيره ورموزه وسردياته، من خلال نشر الثقافة والارتقاء بالوعي الاجتماعي من أسفل... إلخ.
أخطر ما في نظرية ملء بعض الدعاة غير المؤهلين للفراغات الدينية الرسمية، أنها ساهمت في تمدد التطرف العنيف في نعومة وبين عوام الجمهور في الأرياف وفي الهوامش الحضرية المريفة والمشوهة حيث العشوائيات، ونقص الحاجات الأساسية للمواطنين المعسورين..
وحيث تسود أنماط من العنف الإجرامي، والفقر، وهو ما ساعد على بناء هؤلاء الدعاة والإخوان المسلمين وسواهم شبكات دعم اجتماعية تملأ فراغات غياب السياسات الاجتماعية.
هامشية دور الدولة وأجهزتها في المجال الاجتماعي والتنموي والثقافي أدت إلى هيمنة الفكر الديني المتشدد وتأويلاته، وذلك للسيطرة على الإيمان والوجدان الديني وتوجيهه نحو أهداف المتشددين والإخوان، على نحو خلق لدى بعض العوام حالة من اللامبالاة بقانون الدولة وقواعده وعدم الثقة في قدرته على حمايتهم وإعطائهم حقوقهم من خلاله..
ومن ثم يميلون إلى الحلول المستمدة من بعض الأعراف السائدة في كل منطقة وهو ما يؤدي إلى تطبيق قواعد تختلف عن قانون الدولة وإلى سلطة قضاء الأعراف المناهض للسلطة القضائية والمحاكم الرسمية.
أشاع هذه المفاهيم ورسخها لدى العامة في المناطق الريفية والحضرية المشوهة، الخطابات الدينية المتشددة التي تشكك في الشرعية الدينية للنظام القانوني الرسمي وللنظام الحاكم بشكل عام، وأنه مخالف لأحكام الشريعة من وجهة نظرهم، وأن العمل به واللجوء إليه يشكل خروجاً على أحكامها.. إلخ. هذا النمط من الأفكار والتأويلات الوضعية المتشددة أنتج فجوات إدراكية بين «المواطن» والدولة وسلطاتها.
الأخطر أعطى لبعض الدعاة موقفاً ومكانة ونفوذاً خارج إطار السلطات والأجهزة الرسمية، ومن ثم منحهم هامش حركة وسط الجمهور لبث أفكارهم وبعضها ذو نزعة تكفيرية بامتياز وذلك على خلاف فقه الجمهور السني.
الدولة عليها أن تطبق القانون في مواجهة فكر محافظ وعنيف لهذه الجماعات المتطرفة ودعاة الطرق من المتشددين وغيرهم الذين يحرضون العامة أيضاً على الاعتداء على أصحاب الديانات الأخرى وممتلكاتهم ودور عبادتهم، والمحرضون والمشاركون يعلمون أن قانون الأكثرية والمجالس العرفية هي التي ستطبق قانونها لا قانون الدولة.
هؤلاء الغلاة أفكارهم الوضعية هي التي تحرك التوترات الطائفية والمذهبية، وينتهكون حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية بوصفها حقاً دستورياً تكفله الدولة وتحميه، هؤلاء يعتقدون أنهم في مأمن من تطبيق القانون عليهم. من هنا مواجهة هؤلاء الغلاة وتطرفهم العنيف وتطبيق القانون بحزم وحسم عليهم هو الخطوة الأولى في استعادة هيبة الدولة.