يبدو أن الكسل لدى الشعوب أصبح حالة من التلذذ والمتعة لدى بعضهم، وشكلاً من أشكال الرفض والغضب على أوضاع العمل في مؤسسات الدولة المتضخمة بعمالة إدارية وفنية غير مؤهلة أو مدربة على أداء الأعمال المنوطة بها لدى بعضهم الآخر. لم يعد الكسل في مجتمعاتنا العربية قاصراً على بيروقراطية الدولة المترهلة..
وإنما امتدت إلى بعض مواقع القطاع الخاص، حيث التراخي، وتراجع المهارات الفنية، حتى في مجال التسويق والبيع والشراء والاستثناءات قليلة في كل مجال من مجالات العمل الخاص.
والسؤال هل يعود الكسل كقيمة سائدة إلى تضخم العمالة، وغياب شروط العمل المنتج؟ أم إلى اختلال هيكل توزيع الأجور والإحساس بالغبن وعدم العدالة التوزيعية؟ أم أن الكسل يعود إلى رغبة بعضهم في الأجهزة الإدارية الحصول على رشى من طالبي ومستحقي الخدمات الحكومية؟
في الأجهزة الإعلامية المرئية والمسموعة الرسمية على سبيل المثال لا الحصر، أعداد ضخمة في كافة قطاعات العمل، والخسائر مستمرة، والأداء العام يتسم بالكسل والترهل المفرط.
خذ أيضاً أرقام العاملين بالمؤسسات الصحفية القومية حيث وصلت في بلد مثل مصر إلى نحو 24 ألفاً منهم 9.2 آلاف من العمال، و 10.7 آلاف من الإداريين مقابل أربعة آلاف من الصحفيين، ويبلغ عدد العاملين في المؤسسات الثلاث الكبرى – الأهرام والأخبار والجمهورية- أكثر من ثلاثة أرباع العاملين في كافة المؤسسات الصحفية، ووصلت الديون المتراكمة على هذه المؤسسات إلى 11 مليار جنيه.
وحدث ولا حرج عن تأثير هذه الأعداد الضخمة وغير المؤهلة – مع بعض الاستثناءات في القطاعات المختلفة للعمل الصحفي – على أداء الكفاءات والموهوبين، وتحول قوة قانون الكثرة غير المؤهلة إلى أحد أكبر العوائق الهيكلية لتطوير هذه المؤسسات ورفع مستويات أدائها الصحفي ومواكبة التحولات في المهنة عالمياً وعلى المستويات التقنية.
يبدو لي أن التضخم والترهل وعدم كفاءة العمالة في مجتمعاتنا العربية في المؤسسات الصحفية والإعلامية، وغيرها باتت تشكل أحد أكبر عوائق التطور والتنمية حتى في إطار الخيار الرأسمالي لأنها باتت تشكل نموذجاً لقيمة الكسل واللا عمل وفقدان الدافعية والحافز نحو العمل الفعال - كما ونوعاً -، ويعود ذلك لتضخم العمالة البيروقراطية.
وغياب وضعف البنية الأساسية الإدارية المطلوبة لممارسة العمل، وضعف عمليات التدريب وإعادة التأهيل للعمالة الفنية والإدارية من الناحية التقنية والمهارات، وتخلف الأطر القانونية واللائحية والإدارية وتعقدها على نحو باتت تشكل قيداً على حصول المواطنين على الخدمات العامة. من ناحية أخرى غياب مبدأ ومعايير الثواب والعقاب، ومن ثم أدى تعطله وعدم تفعيله إلى غلبة منطق الكثرة الكاثرة الكسولة في التراخي واللاعمل أو أدائه ببطء مما أدى إلى شيوع الكسل والتباطؤ العمدي..
والأخطر تحول العمل البيروقراطي إلى سلعة من السلع التي تباع في أسواق الرشوة والفساد الإداري لدى بعض المنحرفين في أجهزة الدولة البيروقراطية، أو إلى التواطؤات المشتركة على اللاعمل، وذهاب بعضهم لأداء أعمال أخرى موازية في القطاع الخاص، في أوقات العمل الرسمية!
يبدو أيضاً أن التواطؤات المستمرة من السلطات في بعض الدول العربية على احتواء غضب الأجهزة البيروقراطية، وعدم قدرتها على حسم الاختلال في العمالة وهياكل الأجور، أدت إلى ابتداع تحايلات بيروقراطية على إضافة الحوافز والمكافآت وما سمي بالنقاط أو الحوافز في بعض المؤسسات، وذلك لتغدو جزءاً لا يتجزأ مما يتقاضاه العاملون شهرياً وسنوياً، بقطع النظر عن العمل الجاد والإنجاز..
وعدم تحقق أرباح حقيقية، على نحو أصبحت تشكل عبئاً ضخماً على ميزانيات الدول وتزايد مديونيات العديد من المؤسسات والأجهزة الإدارية. يبدو أيضاً أن شيوع الكسل كقيمة سلبية، وغياب الحوافز الفردية تجاه العمل كقيمة جماعية وفردية تضفي معنى على حياة الفرد والجماعة تعود إلى تراجع أداء أجهزة الدولة والمؤسسات القومية والعامة، من حيث نوعية العمالة غير المؤهلة..
وتمدد التعيين على أساس أسري وعائلي وقروي ومناطقي، على نحو باتت تشكل في بعض المؤسسات توريثاً للمهن والوظائف على الرغم من مخالفة ذلك للوائح الإدارية، وبقطع النظر عن الكفاءة أو التأهيل، وذلك في إطار شبكات المحسوبية والزبائنية الشائعة كأحد قوانين الإدارة والبيروقراطية غير القانونية.
لا شك أن هذا النمط من الشبكات يؤدي إلى تعطيل مبدأ الثواب والعقاب، وإلى التواطؤات المتبادلة للتهرب من المسؤولية إزاء الجرائم الإدارية بل والجنائية في بعض الأحيان. من ناحية أخرى تبدو شبكات الفساد أخطر ما يواجه أجهزة الدول، حيث ترتفع مؤشراته في معظم الدول العربية ولا تتراجع.
الفساد كسوق لبيع الخدمات العامة، يؤدي إلى تمايزات اجتماعية بين من يعملون بجدية من العاملين، وبين غيرهم من الفاسدين، وهو ما يؤدي إلى تمدد نزعة اللامبالاة وعدم الرغبة في العمل لدى قلة ممن يعملون لأن سلوك الفاسدين يحبطهم، ويكبح لديهم الحافز نحو العمل الجاد، لأن تمدد الفساد وضعف العقاب أو الإفلات منه، يولد بيئة الإحباط. ومن ثم أصبحت البيروقراطية الكسولة وأمراضها عالة على الدول والمجتمعات.