هل حرية الكسل ظاهرة شعبية عربية فقط؟ أم الكسل يشمل النخبة والجماهير معاً؟ من فضلك تعال معي إلى أروقة النخب السياسية والثقافية في مجتمعاتنا العربية، وتريث قليلاً، وتأمل الخطابات السائدة في السياسة والثقافة والاقتصاد والدين، وخطابات التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي؟

من فضلك لحظة تركيز بسيطة على ما يقال في التلفازات والقنوات الفضائية والإذاعات، وعلى ما يكتب في غالب الصحف هل هناك جديد؟ أرجوك، انظر واستمع وشاهد جيداً ما تراه وتسمعه وتقرأه اللغة والمصطلحات والمفاهيم، و"كلاشيهات" الكلام الخشبي، وقارن بين ما يقال في هذه اللحظة التاريخية المضطربة والمتوترة، وبين ما كان يقال من سنة أو سنوات أو عقود، هل هناك جديد؟

هل لاحظت تغيراً في أطروحات الليبراليين وأشباههم عن ذي قبل؟ هل ترى جديداً فيما يطرحه موظفو المنظمات الدولية، وصناديق التمويل، ومكاتب ومندوبو الجهات المانحة وشروط وتشخيصات مندوبي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووكلاؤهم في السلطة، وخبراؤها والساعون إليها بتبريراتهم .. إلخ؟

لماذا يطرحون ذات الخبرات والتوصيفات والحلول وذات اللغة والمصطلحات منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي؟ ألا يعكس ذلك كسلاً ووسناً فكرياً، وجموداً ونمطاً من الرجعية الفكرية والأيديولوجية من مروجي هذه التوصيفات، ومعارضيهم أيضاً؟!

ألا يشير ذلك إلى أن أنماط العقل العربي – على تعددها وسماتها التفكيرية والذهنية المتشابهة – تشير إلى أننا إزاء عقل نخبوي كسول ومعتقل في سجون الفكر القديم المفارق لسياقاته وزمنه وشروطه وأسئلته؟

والسؤال ما الذي نقصده بالعقل المعتقل الكسول؟ نقصد به مجازياً مجموعة من السياجات والأطر والعمليات الذهنية اللاتاريخية التي يدور في نطاقها ومداراتها العقل والفكر النخبوي السائد إنتاجاً ولغة ودلالة ورموزاً وتوصيفاً وتحليلات وحلول للظواهر والأزمات والمشكلات البنيوية التي تواجه الدول وسلطاتها وأجهزتها وفكرها البيروقراطي وخطاباتها.

والنخبة السياسية الحاكمة والمعارضة، والفكر المستقل عموماً، والاستثناءات محدودة في هذا الصدد لقلة قليلة من منتجي الأفكار والرؤى والمنفتحين إبداعياً على عصرهم ومجتمعهم من خلال العقل النقدي المفتوح.

ان تفكيك وتحليل الخطاب / اللغة / الأفكار السائدة يشيران إلى أن مناهج التفكير، وأنساق اللغة والإنتاج الفكري والرؤى والأفكار والسياسات وأساليب العمل في لحظة تاريخية ما تكشف عن إعادة إنتاج هذه المناهج والأفكار التي طرحت في مراحل تاريخية سابقة ويعاد إنتاجها وترويجها وتسويقها في ظروف وسياقات مغايرة، بعد أن تجاوزت لحظتها التاريخية.

إن هيمنة العقل المعتقل الكسول في مجتمعاتنا العربية تشير إلى أن مقارباتنا للظواهر والمشاكل ومناهج تفكيرنا تعيد إنتاج أفكار من الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والتي كشفت عن فشلها آنذاك، ولم تحدث تغييراً نوعياً في حياتنا، ومع ذلك تطرح مجدداً بلا ملل!

تغيرت الظروف والأحوال كونياً وإقليمياً ولم تستطع أنماط العقل والتفكير السائد أن تستجيب لهذه المتغيرات، وتحدث تغييراً وتحولاً في إنتاج خطاباتنا وبحوثنا وأفكارنا إلا قليلاً، في مجال تشخيص مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية! والخطابات السائدة واللغة والمفاهيم الحاملة لها لم تعد قادرة على وصف وتفكيك وتعليل وتحليل المشكلات والظواهر الجديدة تماماً!

قد تجد بعض المصطلحات والمفاهيم الجديدة في ثنايا الخطابات والرطانة والكلامية الخشبية السائدة، ولكنها توظف على نحو بياني وإنشائي، أي محضُ تلاعب بالألفاظ والمصطلحات بعيداً عن سياقاتها واستخداماتها التحليلية.

ومن ثم تبدو أقرب إلى اللغو والثرثرة والإنشائية! من هنا تشكل الخطابات السياسية والثقافية المسيطرة الآن تعبيراً عن تفاقم مشاكلنا وتساهم في تعقيدها، وتحول دون التجديد في النظر في أحوالنا ومتغيرات عصرنا.

العقل المعتقل هو العقل الأيديولوجي المفارق بأساطيره ومقولاته ولغته للواقع الموضوعي المتغير، وحقائقة النسبية، ويمثلُ تفكيراً بالتمني والإسقاط من أعلى بعيداً عن واقعه وسياقاته ومراحله ومشكلاته!

العقل المعتقل الكسول هو العقل الماضوي ونظائره وأشباهه حيث التمركز حول نموذج تاريخي مرجعي، كان تعبيراً عن عصره وظواهره وأسئلته وسياساته وصراع المصالح المتناقضة داخله! نموذج يتم استعادته أيديولوجياً وسلفياً خارج شروطه التاريخية ليغدو لا تاريخياً ومتجاوزاً لزمانه ومكانه وسياقاته ومواصفاته ليغدو مثالاً يحتذى.

ينزع بعض هؤلاء المروجين لهكذا نموذج إلى إضفاء مسوح من القداسة والصراحة والانغلاق على هذا النموذج ويحيطونه بالقياس، في مقاربتهم للظواهر والمشكلات والمتغيرات!!

أنماط عقلية مهيمنة، وذات نزعة سلطوية – نابعة من سلطة الإيديولوجيات في عصر ما بعد نهايتها، أنماط عقلية ومقاربات في المنهج مسكونة بالكسل عن التفكير النقدي والموضوعي الجاد في الظواهر والمتغيرات الجديدة.

نعم انها عقلية نقلية جامدة لا تسائل مناهجها، وأنماط تفكيرها وأسئلتها وإجاباتها، ولا توصيفاتها للظواهر والمشكلات، وأدوات تحليلها، بل لا تسائل لغتها القديمة المثقوبة، ولا مفاهيمها ولا نظرياتها ولا مصطلحاتها ومدى كفاءتها في الوصف والتفكيك والتعليل والتسبيب والتحليل والأشخاص! والأخطر هو حماية اليقين الذي يسكن ويحتل هذا العقل الكسول في طرح أفكاره ومقارباته القديمة، وحلوله الفاشلة تاريخياً!