تَعلّمنا أن الرّيادة، هي أن نبتكر شيئاً ما، ونقرع جَرَسَه على الملأ حتى يصدح، ونشق طريقاً بِكْراً يأخذنا إلى أفق، فآفاق تُثري روحَنا وحَياتنا بجوهر المعنى لكل ما نبتكره، فنضيف شيئاً جديداً، ونَسدّ نقصاً ما في حياتنا والآخرين. وغالباً ما تنطلق الريادة من الحاضر كبداية، وإلى المستقبل كأفق للتّحوّل والتغيير.
ولا يختلف مفهوم الريادة والابتكار لدى «بيت الرواد» للموسيقي، الذي تحتضنه وترعاه أمانة عمان في مركز الحسين الثقافي بالأردن، بيتٌ بُنيَت «أعمدته» بمهارات موسيقية لرواد موسيقيين وفنانين مطربين قدامى، ومؤسسين للذائقة الموسيقية والطربية العربية.
حيث كان الراديو التقليدي ومسارح الغناء، هما المنفذان الوحيدان لكل هذا الجمال. بيتٌ من النغم والطرب الأصيل لزمن أردني وعربي جميل، رسمه رواد الفن الأردني والعربي آنذاك.
بادرة أحكمت زمامها، بقيادة الموسيقار الأردني المعروف صخر حتر، الذي لم يستكن أو يتراجع عن استعادة المجد للموسيقى والموسيقيين القدامى، وبالفعل، قد نجح. هي مبادرة استثنائية وإبداعية وثقافية وتراثية، تنهل من اللحن العريق، وتذكرنا بتحويل الحلم إلى فكرة وفعل رائد واستدامته، فكان مشهداً أصيلاً للمدينة، حيث يُقام حفل أسبوعي ذو مكان وموعد محدد.
إن جهد الريادة في إحياء التراث الموسيقي، وإثراء الذائقة العامة وحمايتها بالتصدي دون تنازل للرديء في سوق الإسفاف والهبوط، هو الأصعب، وفيه كل المشقة والعناء.
ها هم الروّاد القُدَامى خلف آلاتهم الموسيقية، ومطربون بحناجرهم خلف ميكروفوناتهم، يقفون بكل حب وفخر، يرفدهم نبلهم، وتلك «النوستالجيا» التي تستحضر الروح العطشى إلى اللحن والكلمة والموسيقى، فتطرب الصغير وتنقش ذائقته، وتنعش الكبير، كموجة ناعمة من طرب وذكريات.
دُعِيتُ مؤخراً إلى إحدى الحفلات الأسبوعية التي يقيمها «بيت الرّواد» في العاصمة الأردنيّة «عمّان»، دون معرفتي الكاملة برؤية هذا العمل الريادي، الذي انطلق في 2008، بمبادرة شخصية من قائدها الموسيقار حتر، والذي عُرِف عنه جَلَده وعزيمته، منذ أن طوّعت أنامله الغضة أوتار العود في السادسة من عمره.
رافقني مجموعة من الأقارب من مختلف الأعمار، أصغرهم في الثامنة، وأكبرهم والدتي، في السبعينيات من عمرها. شققنا طريقنا إلى مقاعدنا، والقاعة تعج بالحضور. وبدا على الجميع ألفتهم بالمكان الذي غطت جدرانه الموسوعات والكتب، ألفة لافتة، نسجوا فيها حميميتهم وذائقتهم، يتصافحون ويبتسمون في انتظار الحفل، وسمو الروح العذبة التي تقاوم الانقراض والتشويه.
كنت أظن أنني أخالف البرتوكول الموسيقي، بأن أصطحب الصغار، فإذا بي أرى مختلف الأعمار.
امتلأت القاعة عن بكرة أبيها، وبدأ الروّاد العازفون والمطربون بضبط الإيقاعات والأوتار، وانطلق الحفل بعزف حواري «غرامي عذري» بين العود والناي، حوار تجلّت معه النفوس.
وتمايلت الرؤوس، وأُرْخِيَت الجفون على رموشها، وبدت حالة من الصوفية، وكأنها عناق الطبيعة للطبيعة، أو عشق الغيمة للغيمة أول الشتاء، هدوء النفوس ومتعة الآذان التي أنست الأطفال مكافأتهم المثلجة، ذائقة يمكن وصفها بأنها جسر ناعم ثري نابض، يحملنا إلينا وإلى بعضنا.
هي المرة الأولى التي أستعيد فيها هذا الجسر برفقة أمي، التي حلّقت عالياً كغيرها ممن انتشت ذائقتهم بأنغام السنباطي وبليغ حمدي وعبد الوهاب والقصبجي، وتوفيق النمري والرحابنة وغيرهم.
جسر سَرَى فينا بالناي والعود، وبالقدود الحلبية، والموشحات الأندلسية، وقارئة الفنجان، ويا مالك القلب لعبد الحليم، وأنت عمري لأم كلثوم، وأغاني أخرى ملأت الدنيا لمطربين أردنيين، مثل «روحو قولولو» التي تم تلحينها أصلاً للمطرب الأردني فيصل حلمي، ومن ثم غناها محرم فؤاد.
جاء الفنانون القدامى ليغنوا، أمثال محمد وهيب، ليستعيدوا ألق روحهم الوثابة.. بشغف صدحوا وقرعوا جرس الفرح على أسماعنا في زمن حزين، أهملت فيه العديد من الإذاعات الطرب الأصيل، واستبدلتها بأغانٍ من أمثال «هآ هس بس»، و«واوا، بوس الواوا» و «فرفورة أنا» و«نافش ريشك» وغيرها.
ما هذه الحفلة إلا واحدة من نحو 400 حفلة أقامها بيت الرُوّاد منذ انطلاقته قبل تسع سنوات، بمبادرة شخصية تستحق الثناء والتكريم، وهي نموذج ريادي لإعادة إحياء الأصيل فينا أينما كنا، فإن أخطر ما يفتك بالهوية، هو خراب الذائقة، وانقطاع الأجيال عن الجمال في موروث الفنون، والموسيقى هي سيدة الذائقة ومنارتها وينبوعها العذب للأجيال المتعاقبة.
وما أشدّه من حزن، أن ينهش السخف السهل والهبوط المتسلسل، ذائقتنا وروحنا باتجاه القاع المعتم، حيث يتساوى فيه الغث بالسمين.