ما طلعت عليه الشمس ولا بدأ نهاره من استيقظ ولم يتنفس نداها أو رأى رغوتها في ركوتها وتلمس دفئها على الشفاه. ما عرفت الدمشقية صباحات الأُنس في صحن دارها إن لم يناد عبير قهوتها جاراتها، فيجتمعن حولها يدغدغن الحاضر باستغابة الغائبة منهن، ويستحضرن أجمل الذكريات في ظلال نسيم الصباح.

هي سرّ الأسرار في وعائها تموج ساخنة كبركان، تملي القهوة نشوتها على قارئة الفنجان فتقص على جاراتها بعذب المذاق مستقبلهن واحدة فواحدة، فهذه العذراء ستجد فارسها وقد تشكلت رجولة شاربِيْه العريضين وانتصب كفارس مغوار في قعر الفنجان، أما تلك فيتفتح حنينها ويعود الغائب بحقيبته بلا قفل أو مفتاح.

وهذه العجوز ما زالت تشرب فنجانها وتدخن سيجارتها على ملل و«مهل»، فما عاد يهمها تأويل الخبايا والبقايا، وقد خذلها فنجانها آلاف المرات ولم تخنها لذة قهوتها أبداً، فخلصت أن الوعاء بما فيه وليس بما هو عليه من تموجات البقايا، وتعلمت أن نشوة الروح اللاهثة في الفنجان ما هي إلا شعلة مذاق الصباح على اللسان وانتشاره كتيار كهربائي ناعم في الجسد.

دخلت قهوتنا أساطيرنا كسيدة مفعمة بالحب واليقظة، ميّتٌ من يقاومها ومن لم يفتح أبواب أحاسيسه ليدرك معها أنه على قيد الحياة صباح مساء. هي القاسم المشترك بين الغاضبين والمتآلفين، عليها نجتمع لنشعل جذوة الجد وسمر الأنس، بها نحاصر الوقت أو نحصيه رشفة رشفة، وهي قاهرة الوقت في المقهى، على دفئها ووراءه غيمتها المتصاعدة نخفي فضولنا وعيننا حين نرقب النساء العابرات.

في المقهى، في البيت، وفي السوق القديمة، وعلى عتبات بيت الجار، نشربها، وفي كل مرة نرشفها تلامس حساً وذوقاً بِكرَاً، هي خليط البُنّيُّ المُحمّص يصنع ذاكرة المكان ويجمع رفقائنا في الزمان، هي الدّاكنة المُرّة تفيض فقاعاتها فيملأ عطرها المُخيّلة والنفوس، وبين الواقع والمتخيل على وجه هذا الفنجان تشكلت صور ومعاني ودلالات وتكهنات وتهيئات بصراً وشماًّ ومذاقاً وحتى لمساً.

وليس مهماً دقة الصورة ودلالتها على سطحها أو قعرها، الأهم هو أن اللحظة التي نعيشها معها صادقة في الإحساس والشعور، فبرفقتها الكل نبلاء وأوفياء للحياة.

القهوة في المقهى هي الأنوثة الفائضة الغامضة وعلامات الحب الغائب الجائع، في المقهى تحتسي المرأة أنوثتها، وببقايا أحمر الشفاه على عتبة الفنجان تُروّض إحداهن التنين الصيني المزخرف على دائرة فنجانها إذ ينافسها ارتشاف قهوتها.

والقهوة هي أولى صرخات الرجولة عند اليافعين وهي اكتمالها رعدها عند الكهلة المراهقين المغرمين، هي للجميع في كل الأوقات وكل الحالات، ولكلٍ توقيته الذي تناديه فيه. فها هي على طاولتها فيضٌ من الإحساس وسحر الانطباع الذي نحب أن يراه الآخرون فينا، هي الصادقة في البُنّيّ الدّاكن والراقصة في موج بياض غيمة هوائها الساخن.

وهي المخادعة والمخدوعة بين الصور والتصوّر من انحسار فقاعاتها أو على الأسود البارد المتلبّد في قعر فنجانها. تختزل هذه العربية الأصيلة «موكا - أرابيكا» المحمّصة على جمر اليمن السعيد أضدادها وثنائياتها، فينعم فيها الحزن، ويحزن فيها الفرح.

ولا غيرها يجعل النساء نمرات ومعشوقات في الوقت ذاته.. أو فراشات هائمات.. أو شرسات ودودات.. أليفات وغاضبات، خلف بخارها المتمايل وحدها يختبئ العاشقين من معشر الرجال مخادعين في نواياهم وصادقين في لهفتهم. من دفئها يفوح لونها ويسري مذاقها في الحلق مثل قطعة سكر سابحة في الماء، أثرها عُمقاً وبهجة وحياة.

قهوة المساء خائن من يقاومها أو يؤجل رشفها وعناقها، فهي جسر المودة بين عاشقين متخاصمين وألفة الوصل بين حبيبين بعد فراق، تأتي القهوة واثقة من جمالها وتأثيرها كباقة ورد جوري، أنيقة وفريدة كريشة طاووس ضلت باقتها في قوس قزح، ومشتهاة كعسل بري على هاوية جبل، ومغرية كقطعة شوكولاته سويسرية، أو كأس نبيذ إغريقي معتق، أو سيجار «الكوهيبا» تم لفه بأنامل الكوبيات العذارى.

وهي القهوة الحالمة كضوء شمعة، خلاصة المحبّة وسحرها، إنْ شربها المتخاصمون في مجالسهم تسامحوا، وبها يستغيث الملهوف ويناجي بغيته من المضيف كرماً وشهامة ونخوة، فهي الوعد القاطع على الحر بين الرّجال، وهي اليمين الصادق الذي يقسم به الأحرار، رشفة الكرامة على مائدة الكرم العربي، هي الفعل القول والقول الفعل عند ابن الصحراء.

هي عطر المجالس وغزل الربابة لمسامع النساء في الجوار، وعبق نار الحطب وصفير دلة القهوة التي يتنادى بها القوم، فكريم وشهم من لم تصمت دِلاَلَه عن الصفير، ولا خبت ناره تحت القدور، هي سيدة الضيافة وتاجها. والقهوة هي ترانيم السّامر المنتشي في الطرب والمذاق، عناق العشيرة للعشائر، وبوابة القبيلة للقبائل.

وهي واحة ماء الروح العطشى للحياة، هي الوقت والتوقيت... البرق والبريق، هي الصباح والمساء وما تبوح به النفوس من عشق الحياة للحياة. والناس في حضرتها نوعان: حيٌّ يرزق يعيش فيشربها بأُنسٍ وعلى أمل، وآخر على قيد الحياة لم يولد بعد حتى يتذوقها وينبض سرّها في عروقه، هي الطبيعة والحياة تبوح بأسرارها، سراً فسرّا عند أول رشفة من فنجان.