يهتم المشتغلون بالعلوم الاجتماعية، بعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وعلم النفس الاجتماعي، وهي العلوم التي تدرس الظواهر والوقائع الاجتماعية التي تحدث في أي مجتمع جراء دخول أفراد المجتمع، أي مجتمع، في علاقات اجتماعية، وذلك من أجل دراستها، وتبيان آثارها في المجتمع، سلباً أو إيجاباً.
والمعلوم أن العلوم الاجتماعية تسهم على نحو فعال في تحديد مسارات المجتمع، بل إن الدول الكبرى تعتمد اعتماداً كبيراً على تحليل المؤشرات الاجتماعية، لمعرفة ما تم إنجازه في مجالات التنمية الاجتماعية، في سياق علاقتها بالتنمية الاقتصادية، حتى يمكن متابعة آثار التغيير أو التغير الاجتماعي الذي يلحق بالمجتمع نتيجة الحراك الاجتماعي.
وما تهمناالإشارة إليه، هو أن «البحث العلمي الاجتماعي» يعتبر أهم آليات الدراسات الاجتماعية، ولا غنى عنه كعلم معياري، يساعد صناع القرار على معرفة ما يجري داخل البناء الاجتماعي، من تحولات تنعكس على المجتمع عاجلاً أو آجلاً.
لقد استطاعت كل دول العالم المتقدمة أن تحقق معدلات تنمية اجتماعية عالية، لسببين؛ أولهما ضبط علاقة التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية، والثاني اعتمادها على إسقاطات نتائج البحوث والدراسات وتحليل المؤشرات الاجتماعية. وهذا يعني ببساطة أن هذه الدول أدركت أن النمو الاقتصادي لا يحدث التنمية، هذا إذا كنا نتحدث عن التنمية المستدامة، والتي من أولوياتها الإنسان، وليس مخرجات النمو الاقتصادي. وقد أشار تقرير التنمية البشرية الأخير إلى ذلك.
وبما يفيد أن تقدم المجتمعات البشرية لا يقاس فقط بمعدل النمو الاقتصادي، أو مجرد ارتفاع نصيب الفرد من الناتج الإجمالي، وهو ما كانت تروج له النظريات الاقتصادية التقليدية، مع أن تبدلات ومتغيرات عديدة أفرزتها أهم أربعة مؤتمرات دولية نظمتها الأمم المتحدة في أخريات القرن الماضي، لعل من أهمها مؤتمر المرأة العالمي (بكين)، وقمة الأرض (ريو)، وقمة التنمية الاجتماعية (كوبنهاغن).
ويدرك المهتم أن من نتائج قمة «كوبنهاغن 1995»، ظهور فكر تنموي جديد، تجاوز أطروحات المدرسة الاقتصادية التقليدية، التي استمر تأثيرها كبيراً حتى مطلع التسعينيات، وبدأت ملامح تجربة تنموية جديدة تتشكل، لعل من أهم مظاهرها الاستفادة من الرصيد المعرفي للعلوم الاجتماعية عموماً، وعلم الاجتماع المعاصر تحديداً.
أعود للتأكيد على أهمية دور العلم الاجتماعي، في كشف ورصد كافة العوامل التي تؤثر في حياة الناس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية، ذلك أنه بعيداً عن المنهجية الاجتماعية، تصعب دراسة وتحليل مدخلات أو مخرجات التنمية البشرية، أو قياس مؤشرات التنمية المستدامة بمفهومها الشامل، وهو المنهج الذي يوسع من مساحة الخيارات أمام الناس ويتيح لهم فرصاً أفضل للمشاركة بفعالية في اتخاذ القرار، وذلك ضمن الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه.
ولعل اللافت للنظر، أن دولاً عديدةً في المنطقة، ما زالت تنحاز لأطروحات نظريات الاقتصاد الكلي، وترجيح كفة النمو الاقتصادي على التنمية الاجتماعية. وأكاد أجزم أن الأغلبية على طرف نقيض وتتفق على أن النمو الاقتصادي وحده لم يدفع بالنرويج لتحتل موقع الصدارة من بين كافة دول العالم، كما جاء في تقرير التنمية البشرية الدولي الذي يصدره سنوياً البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة،.
مما يؤكد ما ذهبنا إليه، من أن النمو الاقتصادي وحده لا ولن يحقق التنمية البشرية المستدامة المنشودة، بدليل أن «الدول الاسكندنافية» لم تحصد المراكز المتقدمة، لولا أنها استوفت الشروط والمعايير الضرورية للتقرير، ولعل من أهمها: الحصيلة التراكمية للمعرفة، ممثلة بـ: خبرة السكان المواطنين، ومهاراتهم، وثرائهم الفكري والثقافي، وقدراتهم الإبداعية على «الخلق والابتكار».
فضلاً عن تقديسهم للعمل باعتباره «قيمة حضارية» مما يدلل ويؤكد أن دولة الإمارات العربية المتحدة ماضية على الطريق الصحيح نحو طريق التنمية المستدامة، واقتصاد المعرفة، وذلك عندما أضافت إنجازاً جديداً ومتميزاً إلى سجلها الحافل، بتصدرها مؤشر الابتكار العالمي لعام 2016 عربياً .
حيث أرجعت نتائج المؤشر التقدم البارز الذي حققته دولة الإمارات هذا العام إلى الإنجازات المستدامة التي أحرزتها الدولة في مدخلات (الابتكار)، وخاصة قوة المؤسسات، وتطور الأسواق. حيث تتمتع البلاد بواحدة من أفضل البيئات السياسية والتشريعية في العالم. كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق بعنوان «الإمارات تتقدم العرب ابتكاراً».
لقد أدركت الأمم المتحدة أن تراجع معدلات التنمية الاجتماعية في معظم الدول النامية والناشئة، يعزى إلى غياب أو ضعف عاملين أساسيين، هما: التخطيط الاجتماعي، والسياسات الاجتماعية. وهذا يعني ضمنياً إغفال هذه الدول للبعد الاجتماعي في العملية التنموية، يترافق معه إهدار رأس المال البشري، والثابت أن فشل عديد من الدول النامية في تحقيق معدلات ثابتة للتنمية، إنما يعزى إلى قصر النظر، وعدم الانتباه إلى الخبرة التراكمية للبشر، وترقيتها وتأهيل الكوادر، ورفع قدراتهم ومهاراتهم، وإعدادهم لدخول سوق العمل.
هذا يؤكد أن التنمية المستدامة لا سبيل إليها بتفعيل المفهوم الشمولي للتنمية، والأهم من ذلك كله، ضرورة التنسيق بين أبعاد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تنمية الموارد البشرية وتأهيل رأس المال البشري، علمياً ومهنياً، عبر سلسلة من الحزم التدريبية المتخصصة، حتى يمكن تلبية احتياجات سوق العمل والقضاء على البطالة والتضخم.
وهما من المؤشرات الدالة على بطء الحراك التنموي في أي مجتمع. وسبق أن أشار إلى ذلك تقرير صادر عن «المعهد العربي للتخطيط في الكويت»، وهو من المراكز الراسخة في إجراء البحوث والدراسات الاقتصادية على مستوى المنطقة العربية.