في الحديث الشهير الذي أدلى الرئيس باراك أوباما به قبل قرابة شهرين إلى الصحافي الأميركي جولدبرغ، وعبّر من خلاله عن الرؤية الفكرية التي حددت خياراته وأملت عليه قراراته ومواقفه، وردت جملة تقول بصيغة تساؤلية: ما هي أهمية سوريا بالنسبة لأميركا، تلاها رد أوبامي واضح وصادم، يقول حرفياً: سوريا ليست مهمة لنا.
في فهمه للصراع السوري ولآلياته، يقول أوباما مهنئاً نفسه على قراراته الحكيمة: إن خلف هذا الصراع، الذي له مظهر سياسي، حسابات وصراعات قبلية ومذهبية يصعب على أي أجنبي التدخل فيها، بسبب ما يشوبها من غموض ويكمن فيها من اعتبارات مغرقة في المحلية وذات أبعاد تاريخية يصعب على من يتدخل فيها الخروج منها بسلام، كما حدث بعد تدخلنا في العراق.
هكذا إذاً، لا حرية ولا شعوب ولا ظلم ولا استبداد، بل صراعات وحروب ظاهرها سياسي وحديث وجوهرها ما قبل مجتمعي / ما قبل تاريخي، فما الذي يمكن أن يغري أميركا: بلد الحداثة والتقدم، المنتمي إلى الزمن ما بعد الحداثي، بحشر أنفه فيها وخوض معاركها، التي لا تعنيه أصلاً ولا يمكنه التأثير في مجرياتها؟
سأتجاوز اللغة التحقيرية والأفكار الخاطئة، التي يرى أوباما من خلالها وقائع منطقة لطالما ادعى هو وفريقه أنها دخلت بفضل الربيع العربي المرحلة الرابعة من الثورة الديمقراطية الكونية، التي بدأت في الغرب، ثم اجتاحت البلدان الاشتراكية، قبل انتقالها إلى أميركا اللاتينية ووصولها أخيراً إلى العالم العربي.
صحيح أن أوباما ناقض نفسه، بعد الثورات الديمقراطية، عندما راهن على جماعة الإخوان المسلمين ورأى فيهم ممثلين طبيعيين لهذه الثورات يمثلون النزوع الديمقراطي للشعوب العربية، متجاهلاً ما يستندون إليه من أسس أيديولوجية مغايرة في جوانب عدة للنظام الديمقراطي.
حين فشلت تجربة الإخوان في مصر، وقبلت بالمشاركة السياسية في تونس، اعتقد أوباما أن ما حدث كان تعبيراً عن إخفاق المجتمع العربي في بلوغ الديمقراطية، ولم يرجع أسباب الإخفاق إلى سياسات خاطئة تبنوها في مصر.
بل أعادها إلى بنية عربية غير مجتمعية، نافية للحداثة والديمقراطية، من غير الجائز أن تساندها أميركا، لأن نتيجتها الوحيدة، التي يمكن أن تترتب عليها، ستكون نزاعات قبلية ومذهبية عصية على الضبط والتحكم، كان من نباهته أن تغافل عنها، وحال دون احتراق مواطنيه بنيرانها!
أين تتجسد هذه الهوية ما قبل المجتمعية، المفعمة بالعنف والغموض والمذهبية؟
يبدو أنها تتجسد في الثورة السورية، التي أيدها أوباما بقوة أول الأمر، ثم اكتشف أنها لا تستحق التأييد، لأن سوريا غير مهمة لأميركا، وحقق اكتشافه بعد أن استغل دماء السوريين كي يصفي حساباته مع إيران والنظام، وينتزع البرنامج النووي من الأولى والسلاح الكيميائي من الثاني.
عندئذ فقدت الثورة السورية هويتها كثورة مجتمعية وشعبية مطالبة بالحرية والقيم التي يقوم عليها العالم الحديث، وتحولت إلى شأن لا يعني أميركا، لا ضير عليها إن تخلت عنه وتركته لإيران ومرتزقتها، ولروسيا وشبيحة الأسد، وتفرجت بدم بارد على هؤلاء وهم يفتكون بأطفال السوريين ونسائهم وشيوخهم، وتجاهلت ما يستخدم ضدهم من أسلحة وذخائر تجرب لأول مرة على الآدميين، ولكن بصفتهم «حيوانات تجارب» لا يجوز أن ينفعل لموتها أحد، أو يذكر بها.
ليست سوريا مهمة لأميركا... يبدو أن أوباما نسي تصريحاته اليومية الداعمة لرحيل الأسد، وكان قصده الحقيقي والمضمر منها تسعير الصراع وتصعيده وإيصال السوريين إلى ما بلغوه اليوم من ترحيل وتهجير وتقتيل وتعذيب وإفقار وحصار وتجويع وإبادة.
لنفترض أن هذا لم يكن هدف الرئيس الأميركي، ألم يكن من الإنسانية أن يتحدث بشيء من التعاطف مع ضحايا العنف الأعمى، وأن يعتبرهم بشراً ماتوا من أجل حريتهم، من التجني اعتبار معركتهم قبلية ومذهبية، مساندتهم خطأ وموتهم فعل من أفعال البر والتقوى، أنجزه نظام لم يدنه ولو بكلمة واحدة منه خلال حديثه الطويل.