عقب غزو الكويت في أغسطس 1990 بأيام، بادر المرحوم طارق المؤيد وزير الإعلام البحريني الأسبق باتخاذ قرار ببث قناة «سي إن إن» الأميركية عبر نفس موجة تلفزيون البحرين. كان بث تلفزيون البحرين يتوقف منتصف الليل ليبدأ بث القناة الأميركية. وبعد أيام أضيف إلى ذلك بث قناة «بي بي سي» البريطانية، وبعد أقل من شهر تم تكريس موجة قناة تلفزيون البحرين الإنجليزية بالكامل لقناة «سي إن إن» لكي تبث على مدار الساعة. كان ذلك بداية عصر جديد في البث التلفزيوني في منطقة الخليج وباقي المنطقة العربية.

البرامج الحوارية، البث المباشر من موقع الأحداث، المراسلون، الأساليب الجديدة للمذيعين وتبادل النكات على الهواء مباشرة، كلها كانت أساليب ومقاربات جديدة في البث التلفزيوني بدأت تنتشر في المحطات التلفزيونية العربية. وبدأ الجمهور يعتاد نوعاً جديداً من البث التلفزيوني عقب عقود من اعتياده على محطات تختم برامجها منتصف الليل (نصل وإياكم إلى نهاية بثنا لهذا اليوم...) وأصبح البث 24 الساعة. وما إن انطلقت قناة «إم.بي.سي» العربية عام 1991، إلا وانطلق السباق على أشده لإطلاق محطات تلفزيونية عربية.

لو سألت أي خليجي أو عربي عن المحطات التلفزيونية الأميركية سيجيب من فوره: «سي.إن.إن» والأسباب قد تبدو مفهومة لأن الخليجيين والعرب لم يشاهدوا من القنوات الأميركية سوى هذه القناة.

كنا جميعاً مشدودين (ومشدوهين أيضاً) لمتابعة قناة «سي. ان. إن» لدى تغطيتها لغزو الكويت وتالياً حرب تحرير الكويت. وكان الجميع يعتبرها مصدراً أساسيا لمعرفة التطورات أولاً بأول. أما مقابلات الرؤساء والملوك التي كانت تعيدها في إعلانات ترويجية مستمرة، فقد كانت تذكيراً مستمراً للمشاهدين أنها قناة للأخبار والمعلومات الحصرية كما أن الرؤساء والزعماء يحرصون على متابعتها والجلوس مع محرريها في مقابلات مطولة. كان هذا كافياً لكي تجعل المشاهدين في حالة انبهار دائم وهم يتابعون بث القناة بإيقاعه السريع الذي يقطع الأنفاس. لكن هل يعني كل هذا حكماً بالجدارة المهنية؟

جاء الجواب عندما انطلقت الحرب لتحرير الكويت، فاللقطة الشهيرة للمضادات العراقية وهي تضيء سماء بغداد التي كانت تبثها محطة «سي.إن.إن» بصوت مذيعها الشهير برنارد شو لم تكن من تصوير أي من مصوريها بل صورها أحد مصوري قناة «إن.بي.سي» الأميركية واشترت محطة «سي.إن.إن» اللقطات من القناة الزميلة واستخدمتها بشكل ترويجي. النتيجة هي أن الجميع حسب أن تلك المشاهد من تصوير أحد مصوري قناة «سي. ان. ان».

ومع دخول قوات التحالف إلى الكويت، فإن اللقطات الأولى من داخل الكويت المحررة كانت لفريق محطة «سي. بي. إس» الأميركية وليست من فريق «سي.إن.إن». قد لا يعني هذا الشيء الكثير للمشاهد أياً كان، لكنه يحدث فارقاً كبيراً لدى أبناء المهنة لأنه مقياس من مقاييس الحكم على الجدارة المهنية، وما يجعل للأمر أهمية هنا هو أن هذا قد يناقض الدعاية المكثفة التي تروج بها المحطة عن نفسها.

في حرب البوسنة منتصف التسعينيات، صدم العالم بقوة عندما تم الكشف عن معسكرات الاعتقال خصوصاً مشاهد المعتقلين من مسلمي البوسنة التي بانت ضلوعهم من الجوع. لقد نسي العالم بما فيه الأوساط الإعلامية (تعنيني بالأساس أوساطنا الإعلامية) أن أول من كشف عن هذه المعتقلات هي كايت إيدي المراسلة المخضرمة لمحطة «بي. بي. سي» البريطانية، وأن محطة «سي.إن.إن» جاءت مثل باقي المحطات والصحف إلى تلك المعتقلات بعد أيام من بث «بي. بي. سي» لتقرير كايت إيدي. لكن تكرار بث «سي.إن.إن» لتقارير مراسلتها هناك وبث فواصل ترويجية لهذه التقارير على مدى أيام وشهور، جعل الجميع يعتقد أن «سي.إن.إن» هي أول من اكتشف هذه المعتقلات.

قد تكون هناك أسباب عدة لهذا، لكنني أرى أن الفارق قد لا يكمن في تفاصيل صغيرة مثل انجذاب المشاهدين لهذه القناة أو تلك، بقدر ما تكمن في الفارق بين مقاربة وأسلوب عمل محطتين مثل «بي بي سي» و«سي.إن.إن».

فالمحطة البريطانية «بي بي سي» تعمل بدون ضجيج ترويجي مثل ذاك الذي تعتمده قناة «سي. ان. ان». فالقناة الأميركية تعتمد على الضجيج في الترويج لبرامجها وتقاريرها الإخبارية عبر التكرار المستمر. الخلاصة أن المتلقي لن يتذكر سوى الأكثر ضجيجاً. إنها نفس المقاربة التي يتبعها الأفراد أيضاً في غالب مناحي الحياة، وهي قاعدة الدعاية والترويج الأولى: الضجيج والتكرار. فالناس لا تتذكر إلا الأصوات العالية.

لو سألت أحداً، حتى من الإعلاميين، عن بدء بث قناة «سي. ان. ان» وتالياً انطلاق نوع جديد من العمل التلفزيوني لدينا، فمن المؤكد أن أحداً لن يتذكر أن ذلك بدأ بمبادرة من وزير إعلام بحريني راحل. ولن يتذكر أحد تلك الوقائع المرتبطة بمقارنة الأداء في حرب تحرير الكويت ولا تلك الوقائع المتعلقة بحرب البوسنة؛ لأن الضجيج يغطي على كل شيء، وأحد أهم أبرز عيوب نمط تفكيرنا هو غلبة اللهاث على هاجس التوثيق. لا توثيق، لهذا أصبحت ذاكرتنا تعمل يوماً بيوم.