خلف مذياعها المُقَطّن الملون بخطوط جلد النمر، تحاور المذيعة بخفة الدم وبادعاء الثقافة العامة الرفيعة، وغالباً المثقف الحقيقي لا يستعرض بإهانة الآخرين والتهكم عليهم.
فالإعلامي المثقف يكون غارقاً في الجدية والبحث الدائم عن إجابات لأسئلة إنسانية عميقة من وراء كل حوار، إلا بنت الشارع الإعلامية «المثقفة» بالسينما ونجومها، فقد نزلت إلى الشارع متأبطة مذياعها تسأل البسطاء المهرولين إلى قوت يومهم مثقلين بهمومهم، تستبطئ المذيعة بعضهم، وتفاجئهم بالسؤال حول آثار الانفصال المتوقع لنجمي هوليوود الشهيرين «أنجلينا جولي وبراد بت».
ولأننا نحن العرب بسطاء، ولا نرد أحداً، ونعتبر الإجابة عن أي سؤال تصب في عباءة الضيافة والكرم الاجتماعي والذهني، ولأنه في حضرتنا «السائل لا يُرَد»، لذا، فمن العيب أن تقول لا أعلم، فمأساتنا المعرفية، أن عدم الإجابة هي إهانة للسائل، وقد استغل البرنامج التهكمي هذا «الكرم الاجتماعي» لدى البسطاء من المارة بمختلف أعمارهم.
ويبدو أن الكاميرا قد غربلت المارة بعد لقاءاتهم، فأمام المذياع، وبالأسئلة الاستهزائية، بدأ الناس الكرماء البسطاء الأنقياء يجيبون عن أسئلة المذيعة «العتيدة».
فتم إظهارهم جهلة وأغبياء وسذّج وغرباء عن التطور والبشرية، لمجرد أنهم لا ينطقون أسماء الممثلين كما يجب، أو لأنهم أبدوا تعاطفاً حماسياً مع «الزوجين» المتخاصمين دون معرفتهما، وبعض هؤلاء المارّة أبدى حزنه الشديد على مصير أبناء الزوجين بعد انفصالهما، والآخر عرض استضافتهم في مصر لأكل الطعميّة والفول المدمس، لأنها أكلات تسهم في رأب الصدع بين العشاق.
إن طيبة «ابن البلد»، جعلته غير عابئ بأسماء ونجومية المتخاصمين، بقدر اهتمامه بنتائج هذا الخصام، فبدت بالنسبة له حالة إنسانية محضة.
وقد تم استغلال هذا التفاعل الإنساني البريء من قبل البرنامج التلفزيوني، إذ أمست البراءة العفوية مصدر تَنَدّر وسُخْرية على الطيبين من أهلنا، الأمر الذي أعطى انطباعاً أن من لا يعرف أو لا يحسن تهجئة اسم «النجمين»، فهو خارج الكون، ومتخلف وجاهل، ويستحق أن يتحول إلى نكتة ومحط تهكم.
مع كامل التقدير للدور الإنساني والتوعوي والسينمائي الرائع التي تقوم به السيدة جولي حول العالم، إلا أن عدم معرفة نطق اسمها، لا يعني الجهل والتخلف. لقد استبطن البرنامج، ومن باب التسلية الرديئة، سطوة النجم الغربي الذي يسطع فيضيء ثقافتنا ومعرفتنا وحضارتنا.
وأننا إذا لم نُحِطْ تماماً بفضائحه ويوميّاته وخياناته، أو حتى درجات الألم في كاحله، فإننا بالضرورة جهلة وغائبون عن الاتجاه العالمي. وغير ذلك، فإننا نحيا ونفرح ونحزن ونتكاثر خارج السرب الإنساني الحضاري المتمدن.
هي الآلة الإعلامية التسويقية، التي تصنع النجوم، وتجعل منهم ضوءاً مشتركاً بين الناس، وكأن تَغيّبك أو تأخرك عن معرفة آخر الأخبار، يعني أنك لم تخطُ بحياتك إلى الأمام كما يجب. ولهذا، فإن برامج الاستغابات والاتهامات ومتابعة النجوم وهفواتهم ومشاكلهم ونزواتهم وآراء منافسيهم بهم، هي مادة دسمة في عملية إعادة تدوير النجم، وإبقائه تحت الضوء.
والمطلوب منا أن نتابعه تسلية وشغفاً، وندعي إلمامنا بأخباره، كأن يتم الحديث لحلقة كاملة حول اللون والشكل والنوع المفضل الذي تحبذه تلك الفنانة عند ارتدائها الكعاب العالية، ويختتم المذيع حلقته بالإطراء على كلبها السلوقي.
وفوق كل هذا وذاك، تأتي إحداهن بمذياعها لتسأل البسطاء المنهكين بهمومهم، فتوسِمَهُم بالجهل العالمي، وتصِمَهُم بالتخلف الثقافي. فإنتاج البرنامج ضروري لتسلية المشاهدين، ولا بد من تعبئة ساعات بث المحطة المُسْتَهْلَكَة والمُتَهَالِكة بمزيد من المسخرة، وتحويل الناس البسطاء إلى سلعة استهلاكية لاستقطاب الإعلانات والمشاهدات على قنوات التواصل الاجتماعي.
شاهدت البرنامج الساذج، وأدركت كم أن البسطاء أنقياء وطيبين، يُشْهِرون حبهم وخيرهم أينما حلوا. وأن البرنامج إدانة صارخة لمنتجه ومخرجه، وأن المُكَوّن الأساسي فيه، هو الجهل والتجهيل.
لروحك السلام يا جدتي، وأنت الخبيرة بمعظم نجوم السينما المصرية، وكنت لا تذكرينهم إلا بصفاتهم: ذاك الأصلع الشرير عن محمود المليجي، و«الشاب الحلو» عن عمر الشريف، و«القبضاي» عن فريد شوقي، و«الخبيث المكار» عن توفيق الذقن، ولم تعرف بالاسم سوى فاتن حمامة.
ماتت جدتي عاشقةً لسينما الأبيض والأسود، وعجزنا جميعنا عن تصحيح نطقها، إذ كانت تقول «سِيلَمَا»، وليس سينما، على الرغم أن لسانها صحيح فصيح بكامل أبجدياته، فكنّا إذا توددنا لها قلنا «سِيلَمَا».