(١)

اللغة العربية لغة عبقرية: تستطيع أن تُسمي أي شيء بألف اسم، فالمطر من لحظة تشكله كـ: سحابة، غيمة، مزنة.. حتى لحظة هطوله، وحسب درجة قوته: رذاذ، طل، رش، طش، ديم، نضح، وابل.. إلى أن يجري على الأرض كـ: سيل أو نقل.. ستجد مئات الأسماء والصفات من لحظة تشكُّله في السماء حتى جريانه على الأرض.

ولأن اللغة العربية كريمة لم تنسَ حتى «الحمار» الذي منحته عشرات الأسماء: الجورف، حذى العرد، العكموس، النهاز، الهمهيم، المكراف.. بل إنها دللته بأكثر من كنية: أبو صابر، وابن شنة!

والعربي بطبعه- وثقافته- يرفض أن تصفه بـ: الحمار، ولكنه يبتهج كثيراً، ويرفع رأسه عندما يُوصف بـ: الذئب، رغم أن كليهما: حيوان.. الأول - الحمار- حيوان ودود، خدوم، غير متوحش، رافقه منذ بدء التاريخ ونقله ونقل متاعه ورافق أغنامه، والآخر- الذئب- يسطو عليه ويقتل أغنامه.. وأحياناً يقتله.

العربي- بطبعه- يحترم القوي.. حتى وإن قتله!

(٢)

الأكراد لا يختلفون كثيراً عن العرب، ففي عام 2005 تم تأسيس «حزب الحمير» في كردستان العراق من قبل السيد «عمر كلول»، وهو بالمناسبة بحكم منصبه - أميناً عاماً للحزب - يُلقّب بـ: الحمار الأعظم!

ولنيل العضوية في حزب الحمير، لا بد من مواصفات ومميزات يتمتع بها المتقدم لينال شرف العضوية في الحزب: يجب أن يكون لديه حب العطاء والتضحية، وأن يتمتع بالصبر وقوة التحمل والقدرة المستمرة على الحركة والكد المتواصل، باختصار يجب أن يكون الشخص:

«حماراً» بمعنى الكلمة. وبمجرد دخول العضو إلى صفوف الحزب يطلق عليه كلمة «الجحش» إلى أن يترقى- حَسَب مدة عضويته، وجهده في النهيق الثوري- فيصبح: حماراً، ثم حماراً كبيراً، وصاحب الحدوة، وصاحب البردعة والحمار الأكبر!

الأكيد أنه لن يترقى أي «جحش» من أعضاء الحزب لأي مرتبة أعلى، لأنه وبعد الكثير من الاجتماعات والجدل و«الرفس»- حسب تعبير ناشطي الحزب- حل أمين سر الحزب- الحمار الأعظم «عمر كلول»- حزبه بعد الكثير من السخرية عليه وعلى بقية الأعضاء، والمعاناة الاجتماعية، وعجزه عن إفهام الناس بضرورة احترام الحمار كونه رفيق درب للإنسان!

(٣)

وهناك تاريخ طويل في كل أنحاء العالم لأحزاب وجمعيات وجماعات اتخذت الحمار شعاراً لها، أو سمت نفسها باسمه، وفي العالم العربي عام 1930 تأسست في مصر جمعية الحمير ودخل في عضويتها عدد من الممثلين والفنانين والكتَّاب، وأتت بهدف رعاية حقوق الحيوان، وكونها حركة سلمية سياسية رافضة لإغلاق معهد الفنون المسرحية من قبل الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت.

وفي مصر تحديداً: وُصف ملك الأغنية الشعبية «محمد عبدالمطلب» بـ: الجحش، لأنه أتى للإذاعة المصرية خلفاً لصالح عبد الحي، الذي، لكثرة جهده وغزارة إنتاجه، كان يُلقب بحمار الإذاعة، فصار لقب عبدالمطلب من بعده: جحش الإذاعة المصرية.. وظل طيلة حياته الفنية معروفاً بهذا اللقب!

وفي التراث العربي لا يوجد أشهر وأطرف من حمار الشيخ نصر الدين الرومي- الشهير بـ «جحا»- والحمار الأشهر والأعظم منه- مع الاحترام للكردي عمر كلول- هو: مروان الحمار!

و«مروان الحمار» هو آخر خلفاء الدولة الأموية: الخليفة مروان بن محمد بن الحكم بن مروان بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي. وعرف بـ«الحمار» لجرأته وشجاعته في الحروب، ويُقال‏:‏ «مروان أصبر من حمار في الحروب»، ولهذا لقب بالحمار.

قالت عنه كتب التاريخ إنه لا ينزل عن ظهر حصانه المنهك إلا ليمتطي ظهر حصان آخر استعداداً لمعركة أخرى. تولى الخلافة لمدة 6 أعوام، وسقطت دولة الأمويين بمقتله، وهو نموذج للزعيم الذي أتى بوقت غير وقته. كان يحاول بصبر وجلد وشجاعة إعادة الروح لدولة بني أمية التي بدأت بالتفكك. لو أتى للحكم قبل وقته لربما استمرت الدولة قرناً آخر!

(٤)

لماذا تريد الصين كل حمير العالم؟: تحت هذا العنوان كتبت صحيفة The Independent البريطانية إن الصين تسعى لشراء أكبر عدد ممكن من الحمير من مختلف دول العالم لاستخدامها في الطب الشرقي. وأشارت الصحيفة إلى أنه يجري استخدام لحوم الحمير في أدوية لعلاج أمراض الدورة الدموية والتخلص من الإرهاق.

ونوهت الصحيفة بأن بعض الدول الأفريقية حظرت بيع الحمير للصين بعدما قالت النيجر إن معدلات تصدير الحمير زادت 3 أضعاف خلال العام الماضي وخاصة للدول الآسيوية. وأوقفت بوركينا فاسو تصدير جلود الحمير.

ويقال إن جلد الحمار المغلي تنتج عنه مادة مطاطية تشبه الجيلاتين وتعرف باسم «ejiao» وهي تدخل في صناعة العديد من المنشطات والأدوية الصينية، التي يعتقد أن لها دوراً في تحسين الدورة الدموية وعلاج الدوار والإرهاق.

وتجدر الإشارة إلى أن الصين عملت على زيادة وارداتها من جلود الحمير، وجاء ذلك بعد انخفاض أعداد الحمير في الداخل من 11 مليون حمار في تسعينيات القرن الماضي إلى 6 ملايين في الوقت الحالي. ونقلت الصحيفة عن مسؤول في حكومة النيجر قوله إن عدد الحمير التي خرجت من الدولة العام الحالي وصل إلى 80 ألف حمار مقارنة بـ27 ألف حمار العام الماضي، محذراً من انقراض هذا النوع من الحيوانات في النيجر إذا استمرت عمليات التصدير بنفس المعدلات.

طبعاً الصين تعمل على اتجاهين:

تشتري حمير العالم، وتبيع لـ«حمير» العالم!

(٥)

في إنجلترا شجع أحد المهتمين بالحمير الناس على استخدام التكنولوجيا لفهم خلجاتها وحركاتها وما تطلقه من أصوات.

ويدرس مارك إنيسون الحيوانات منذ أكثر من 20 عاماً ويقول إنها كائنات مفعمة بالمشاعر. وقال إنيسون عن حماره كارل، وهو ضمن 17 حماراً يملكها: «نرصد حركاته وتعبيراته»، ويؤكد أن تكنولوجيا الترجمة تعتمد على تحليل أصوات وترددات كل نهيق، بحيث يمكنها ترجمته إلى عبارة تعكس أحاسيس الحمار!

الحمير- في بعض الأماكن في العالم- يتم تحليل أصواتها.

وفي مناطق أخرى- من هذا العالم- لا صوت لها أصلاً!

(٦)

أقوى الحمير وأشهرها وأكثرها هيبة في عالمنا المعاصر هو: الحمار الديمقراطي!

أقصد شعار الحزب الديمقراطي الأميركي الذي يقابله فيل الجمهوريين. وهذا «الحمار» تحوّل إلى أيقونة سياسية وعلامة تجارية توضع على القمصان والأكواب والشعارات وتدر مئات الملايين من الدولارات. ويعتبره الديمقراطيون رمزاً للثورة والتمرد.

وله قصة طريفة بدأت سنة 1828 عندما اختار المرشح الديمقراطي لخوض سباق الرئاسة آنذاك أندرو جاكسون شعار «لنترك الشعب يحكم»، وسخر منافسه الجمهوري كثيراً من هذا الشعار ووصفه بأنه شعبوي ورخيص، فما كان من جاكسون إلا أن اختار حماراً رمادي اللون جميل المظهر، وألصق على ظهره شعار حملته الانتخابية، وقاده وسط القرى والمدن المجاورة لمسكنه من أجل الدعاية لبرنامجه الانتخابي «الشعبوي» ضد منافسه، الذي كان يظهر على أنه نخبوي، وليس قريباً من هموم الناس!

وبمناسبة الانتخابات: تستطيع أن تقول إن السيدة «هيلاري كلينتون» بشعارها الديمقراطي: الحمار، ستنافس «الحمار» نفسه، فإن فاز «ترامب» فإن العالم مقبل على الكثير من الفوضى والنهيق الجمهوري!

(٧)

وفي بحور الشعر العربي وتفعيلاته، يأتي «بحر الرجز»- مستفعلن مستفعلن مستفعلن - ويسمى هذا البحر: حمار الشعر! أو: حمار الشعراء لسهولته. وعلى ذكر الشعر، يقوم شاعر العامية السعودي الشهير والمشاكس «عبدالمجيد الزهراني» بإدخال الحمار في حالة غزل فاتنة عبر هذا المقطع اللاذع اللاسع الواسع الانتشار:

[ قالت: أمسك يا حمار..

وقلت: هاتي.

وكانت أحلى حمار اسمعها بحياتي !]

أما أحمد شوقي فقد كان قاسياً على الحمار في البر والبحر.. لأن هذه الأبيات تنسب له:

[ سَقَطَ الحِمارُ مِنَ السَفينَةِ في الدُجى /‏ فَبَكى الرِفاقُ لِفَقدِهِ وَتَرَحَّموا

حَتّى إِذا طَلَعَ النَهارُ أَتَت بِه /‏ نَحوَ السَفينَةِ مَوجَةٌ تَتَقَدّمُ

قالَت: خُذوهُ كَما أَتاني سالِماً /‏ لَم أَبتَلِعهُ لِأَنَّهُ لا يُهضَم! ]

(خروج عن النص)

يقولون:

لا فرق بين الاستعمار والاستحمار

سوى أن الأول يأتي من الخارج،

والثاني يأتي من الداخل!

* كاتب سعودي