ما الذي يجعل امرأة ولوداً في منتصف العشرين من عمرها، أن تزف طفلها المتوفى إلى حديقة عامة، وتقضي الليل البارد تؤرجحه تحت المطر، تغني وتحكي له القصص؟

ما الذي يُغَيّب موته عنها، رغم عينيه الساكنتين، ووجهه الصامت؟، إنه الأمل!. أملها في أن تستدعي ترنيمتها روحه التي ما زالت تحوم قريبة، أملاً في أن توقظ إيقاعات الأرجوحة فرح الطفولة والحياة التي غادرت الجسد، تؤرجحه دون توقف، علّ الروح الشاردة تحنّ للجسد. أو لعل الجسد الغض يهمس للروح بِسرّ العودة. إنه الأمل الصارخ الذي به يستبقي الأحياء أمواتهم أحياء.

وقد أبدع البشر طقوساً وإشارات، من شأنها أن تستبقي الميت جسداً وذكريات، وتستدعي المسافر الغائب حاضراً في الوجدان. وإن اختلفت الطقوس، فثمة ألم يوحدهم جميعاً، إنها دمعة الوداع، هي آخر ما يبوح به الأحباء في محطات السفر، دمعة تناجيها القُبَل وإشارات الفراق القسري.

فإن ركب أحدهما القطار أو الطائرة مسافراً، فكلاهما، المودع المسافر، بمفهوم الفراق قد سافرا، الأول لوجهته لاجئاً أو عاملاً، أو حتى طالباً للعلم، والثاني أيضاً يسافر في داخل مكانه وحيداً. وأشد ما يصيب أهل الفقيد من أسى، أن يرحل غائبهم في أرض الله عن أرض الله بلا وداع أخير، فيُدفن على عجل،.

وبدون أم تنتحبه أو أب يَبكيه أو أخت تُرَنّمه، أو قريب يلقي عليه تعويذة الوداع، أو رجل دين يسجيه قبره رويداً على شعائر الموت. يموت الغائب مهاجراً لاجئاً فقيداً على حدود الحياة والموت، أو مبحراً غريقاً في عباب البحر، يختفي في الزمن بلا مكان وبلا خاتمة للذكريات. ومن المفارقة، أن أناساً يموتون على أرضهم وبين أهليهم، لكنهم يدفنون وحيدين.

حيث لا أهل أو أصدقاء. عاشوا فرادى وماتوا وحيدين، بلا أثر أو ذكريات، أجسادهم المتحللة أعلنت موتهم لجيرانهم، كان عالمهم الوحدة وقبرهم الآن، أقل قسوة من عزلتهم في بيوتهم. نَتَذَكّرهم فقط لطريقة موتهم، ليس أكثر، ولأننا نخاف الموت وحيدين.

ثمة من الأحياء لا ترويه قُبْلة الوداع، أو تُشفي غليله النظرة الباكية، ليس أنانية أو استملاكاً، وإنما توحّداً مع الفقيد وتلمّساً عميقاً لكارثة الغياب الأبدي. يرحل الفقيد ميتاً دون سفر وبلا دموع، وبدون موعد طائرة وانطلاق قطار. يموت أحدهم على سريره فجأة بين أهله وذويه. ذاك الشاب في ريعانه نام ولم يستيقظ، آخر أصابه مرض غامض فتك به خلال ساعات، وغيره خطفه الموت على حين غرة بسكتة قلبية.

وكان لينجو منها لو أنه أكبر سناً، حيث يخف عنفوان القلوب وتدفق دمائها. وغيرهم، يسافرون على أسرة الموت، ويختفي ألمهم، وتبقى المشكلة لدى الأحياء المكلومين. وكلٌ يتحايل على موت فقيده بحسب شعائره وطقوسه ومعتقداته، وآخرون لا يكتفون بذلك أبداً، خصوصاً إذا كان الرابط مقدّساً، كتلك الأم التي أرجحت طفلها، تناجيه وتستبقيه، لأنه جزء من روحها وجسدها. توحدت معه حياً وميتاً.

أو كتلك العجوز الثمانينية التي عُرِف عنها الرقة وطيب المعاملة، لكنها احتفظت بزوجها التسعيني المتوَفّى في الثلاجة، ليكمل مسلسلاً تلفزيونياً أحباه وتابعاه معاً، وهنا يُحَاصِر الموت.

إذا كان الموت هو: »نهاية كل حي في هذا الوجود، يكون مظهره خمود الشعور وتلاشى الإدراك«. فإن هذا التفسير لا يرقى إلى شعور الأحياء المكلومين المتيّمين أو الأمهات الثكالى، إذ يبقى المكلوم الحي يهزج للميت، ويستبقيه ما استطاع عاطفياً وجسمانياً، فالأموات أحياء في أحبتهم، يصمتون إلى الأبد، ويتركون الأحبة أحياء في أتون الألم، يقطنون حدود الحياة والموت.

إن عراقة الشعوب في أهازيجها وعاداتها، ليس في دفن الموتى، وإنما في عادات استبقائهم وبعث روح الحياة في الذكريات، وتخفيف الألم بالأهازيج والرثائيات، التي هي مزيج سحري يجمع بين ثنائية الحزن والفرح، ألم الفراق وفرح الاستبقاء والمديح للفقيد الغائب الحاضر.

فعندما مات الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وشيّعه إلى مثواه الأخير مئات الألوف، تحت شعار »على هذه الأرض ما يستحق الحياة«، ورثاه مئات الشعراء، وأقيمت الفعاليات إحياء وإجلالاً لذكراه، وغيرها، فإن كل هذا، على أهميته، لم يعادل في تأثيره تلك الأهازيج والرثائيات المغناة المعشقة بالدموع وحشرجات صوت أمه وأخواته في جلسة الاستحضار والاستبقاء لابنهم الغائب الحاضر. تراقصت الرثائيات بين الفرح ومديح الحاضر الساطع، وبين الحزن والحسرة على فراق الغائب الراقد في قبره. إننا نُغنّي للفقيد الميّت، نحكيه ونحاكيه.. نَحْيَا بِه مَيْتاً.