لا نعتقد أنهم كانوا دقيقين إلى حد كبير في تعبيرهم، أولئك الذين وصّفوا التنافس الانتخابي الرئاسي الأميركي طوال الشهور الفائتة، بأنه كان صراعاً بين اليسار واليمين، واصلين في نتيجة الأمر إلى أنه كان من «الطبيعي» أن يكون النصر من نصيب اليمين، في لعبة تداول السلطة بين الجانبين.
وهي اللعبة التي لا تزال تُلعب بنجاح متفاوت منذ زمن طويل، بين حزبين يمثل كل واحد منهما جانباً من جانبي ذلك التداول المستديم، مع بعض الخروقات بين الحين والآخر.
صحيح أن جزءاً كبيراً من خطاب السيدة كلينتون كان خطاباً «يسارياً» بالمعنى الإنساني، إن لم يكن الأيديولوجي للكلمة، ولا سيما حين كان ينطلق من عدد من الإنجازات الاجتماعية الشعبية التي حققها محازبها، الرئيس أوباما، على الصعيد الداخلي على الأقل. ولكن من الأصحّ أكثر، أن الخطاب المقابل لم يكن خطاباً يمينياً.
كان، كما أجمع كثر على وصفه، خطاباً شعبوياً. وهو بالتالي، لم يكن خطاباً على الإطلاق. كان مجرد عبارات وشعارات وهمهمات لا تحمل أي برنامج حكم حقيقيّ، ولا فكراً مستقبلياً، ولا خطة عمل مبنية على أسس دراسية، يمينية كانت أو يسارية. لكننا لا نعني بهذا، أن الرئيس المنتخب قد أخطأ في خياراته التعبوية، حين كان لا يزال مرشّحاً. بل نعني أنه فعل ما كان بالنسبة إليه وإلى جمهرة ناخبيه، عين الصواب.
ففي اعتقادنا أن المرشح ترمب فهم أولاً أكثر من منافسيه الجمهوريين على الترشّح، وبعد ذلك أكثر من منافسته الديمقراطية على اللقب والمنصب، روح الزمن الذي نعيشه. فهم أن الكلام الكبير والمشاريع الإنسانية والوعود المبنية على أسس عقلية، لم تعد تنتمي إلى هذا الزمن.
فهم أنه زمن من دون قيم، ولا سيما في المجتمعات الإشكالية (ولكن، هل ثمة حقاً في عالم اليوم مجتمعات يمكنها الزعم أنها ليست إشكالية!). فما كانت تسمى حتى الماضي القريب «الغالبية الصامتة»، لم تعد ترى مصلحتها في أن تواصل سكوتها اليوم على ضوء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والربط بين الإرهاب والمهاجرين، واستشراء العنف وانسداد الآفاق أمام الأجيال الشابة.
وهي إذ رأت في المهاجرين مشجباً تعلق عليه كل مشاكلها وإحباطاتها، أدركت أن القيم الإنسانية والفكرية الكبرى، لا تشتغل لصالحها. ومن هنا، باتت تتطلب خطاباً جديداً/قديماً، من ذلك النوع الذي يعزز لها قناعتها الانغلاقية، ويبعدها عن شبح القيم، الخاسرة بالنسبة إليها، والكلام الكبير الذي يبدو لها موروثاً من أزمان ولّت.
هذا ما أدركه المرشح ترامب، وكان يمكنه أن يتحراه في تجارب «شعبوية» سبقته، وأوصلت إلى السلطة في بلدان كبيرة عديدة، زعماء من أمثال الروسي بوتين، والإيطالي برلسكوني، ومن قبلهم السيدة تاتشر، والرئيس ريغان...
فهؤلاء جميعاً لم يصلوا إلى الحكم و«الشعبية» في بلدانهم، إلا على جثث القيم الكبرى والأفكار الإنسانية. كذلك لا شك أن ترامب درس جيداً حالة المستشارة ميركل في ألمانيا، وهي يمينية بالمناسبة في الحسابات الأيديولوجية المعهودة، التي بعدما كانت شعبيتها تحلق عالياً في بلدها، تهاوت تلك الشعبية من جراء مواقفها الإنسانية تجاه المهاجرين. إذ حتى في بلد استقبل جمهور ملاعبه الرياضية قبل شهور، المهاجرين السوريين بالترحاب، يشكل تدهور شعبية ميركل علامة هامة. ولا شك أن المرشح ترامب قد فهم هذا جيداً...
ومن هنا، رأيناه خلال حملته، يستفيد من غياب القيم وأزمة الفكر الإنساني المستشرية في بلده، كما هي مستشرية على صعيد أجزاء واسعة من عالم اليوم، حيث لم تعد الصراعات فكرية أو أيديولوجية، أو حتى اقتصادية، بل صراعات تنطلق من مواجهات غريزية بين «غالبية» تريد اليوم أن تعيش بهدوء منعزلة عن العالم وديناميكيته، وأقلية لا تزال تعتقد أن في وسعها أن تستفيد مما تبقى من قيم بدأت تنتشر وتفرض حضورها مع بدايات القرن الثامن عشر، لتعيش في بعض أزمنة القرن العشرين ذروة انتشارها، مهددة الغرائز والأفكار التبسيطية في عقر دارها، ليطل القرن الحادي والعشرين، شاهداً على قلبة تاريخية حضارية، لا شك أن المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون في كتابه «الصراع بين الحضارات»، كان أكثر إدراكاً لها، من زميله ومواطنه فرانسيس فوكوياما، الذي رأى مع سقوط المنظومة الاشتراكية «نهاية التاريخ» وانتصار الليبرالية، فإذا بالليبرالية تهوي مع الاشتراكية، ويهوي اليسار واليمين، لصالح وضعية يمكن أن يكون أقل ما فيها، انهيار القيم أو تأزمها على الأقل على الصعيد العالمي!