هناك علاقة وثيقة ومتبادلة بين الخيارات والوسائل التي تستخدم لتحقيقها. هذا ما يعرفه كل متابع للشأن العام وتطور الأحداث، الصراعية منها والسلمية.
هذه العلاقة المهمة والحاسمة، لا تكون صحيحة دوماً وبالضرورة، إذ كثيراً ما تفشل الوسائل في ترجمة الخيارات إلى وقائع، أو تجافي الخيارات الوسائل التي يراد تحقيقها من خلالها، فتقع في الحالتين مشكلات تتصل بالتناقض بين الغاية والوسيلة، وبالتنافر بين الطريق والهدف.
ثمة حالات تاريخية عدة فشلت فيها الخيارات بسبب قصور الوسائل التي استخدمت لتحقيقها، أو عجزها عن خدمة أهداف ليس لها القدرة اللازمة لتنفيذها، من ذلك عجز الإسكندر الكبير طوال أشهر عن احتلال مدينة صور في لبنان، بسبب عجز ما استخدمه من وسائل عن ردم الهوة البحرية بين اليابسة والمدينة.
بالمقابل، قد تكون الوسائل أكبر من الخيارات الضرورية لتحققها، وقديماً قيل في مثل شهير: «لا أحد يستخدم مدفعاً ليقتل ذبابة»، بينما يسخر حتى عوام الناس ممن يستخدمون وسائل جبارة لتحقيق أهداف متواضعة ويذكرونهم بقصة الدب الذي سحق جمجمة صاحبه بحجر، ليبعد عنه حشرة دبت على وجهه وهو نائم.
برزت مشكلة الخيارات والوسائل خلال الثورة السورية بصورة فاقعة، فقد اختار النظام القضاء على الثورة بالقوة العسكرية، إلا أن قوته لم تكن كافية لتحقيق هدفه، أو أنه استخدم ما كان متوافراً له من قوة بطرق فاشلة حالت دون تنفيذ خياره.
بدورها، جعلت الثورة خيارها القضاء على النظام وإخراج بشار الأسد من السلطة، بيد أن وسائلها لم تمكنها من بلوغ هدفها، وتحقيق خيارها، لذلك بدا التناقض جلياً بين خيارها ووسائلها التي لم تشمل فقط وسائل التنفيذ المادية كالسلاح.
بل طالت أيضاً الأساليب القتالية والخطط العسكرية والبنى التنظيمية، وسواها من المكونات والعناصر التي تجعل الوسائل حاسمة الأهمية في أي صراع، وجعلت بعض الاستراتيجيين يعتبرونها أكثر أهمية من الخيارات.
بالنظر إلى أن هذه لا تتجسد بصورة مادية ملموسة إلا عبر الوسائل التي تترجمها إلى واقع ينشد صاحب الخيارات إقامته، ويرتبط تحقيقه بما سبق قوله حول القدرة على بلوغ درجة معينة من التوافق بين خياراته ووسائله اللازمة لتحقيقها.
بدورها، واجهت القوى التي تدخلت في الشأن السوري مشكلة الهوة التي لم تتمكن من جسرها بين خياراتها ووسائلها. حدث هذا لإيران، وكذلك لروسيا، رغم أن الأولى استخدمت كل ما تمتلكه من وسائل وأدوات كي تبقي النظام الأسدي تابعاً لها، بينما لجأت الثانية إلى وسائل جبارة، غير أنها لم تمكنها طوال عام وشهرين من تحقيق ما تريده في سوريا، بسبب عجزها عن كسر مقاومة شعبها.
تمتلك الثورة السورية خيارات تتفق وقيم الحق والخير، بينما تعتبر خيارات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس ظالمة ومعادية لحق الشعوب والأفراد في الحرية والعدالة. في هذه النقطة، يكمن تفوق خيار الثورة ووسائلها على خيار الأسد وداعميه ووسائلهم.
لكن هذا لا يجوز أن يدفعنا إلى تجاهل السلوك الأسدي لبعض من يحسبون أنفسهم على الثورة من إرهابيين وأمراء حرب، وإلى التعامي عن وسائلهم التي تقوض تفوقها الأخلاقي.
لذا، من الحيوي أن تحول الثورة دون تضارب وسائلها إلى الحد الذي صار يهدد بتدمير خياراتها، إن كانت ما تزال راغبة في مقاومة جيش النظام ومرتزقة إيران وعسكر روسيا، ومؤمنة بحتمية تطهير صفوفها من إعدائها الذين تتعارض خياراتهم ووسائلهم مع خيارات الثورة، وتؤسس لازدواجية قاتلة فيها، لن يبقى لديها بسببها أي خيارات حرة ووسائل أخلاقية، بخاصة بعد أن أخذت تضع تنظيماتها في مواجهة عنيفة بعضها ضد بعض، مثلما يحدث منذ أشهر في الغوطة الشرقية.
حيث يقتتل فصيلان يزعم كلاهما تبني خيارات الثورة، واتباع نهجها واستخدام وسائلها، والدفاع عن قضيتها المقدسة، لكن مزاعمهما لم تكن كافية إلى اليوم لجسر خلافاتهما وإنجاح مصالحة بينهما توقف تربصهما أحدهما بالآخر، وتنقذ الغوطة الشرقية من سقوط متتال أطاح بقسم كبير من مناطقها المحررة.
ومكن النظام من اختراقها بعمق في أكثر من موقع، وبدد قسماً كبيراً من قواهما في قتال إخوة أعداء، نسوا خيار الثورة، واستبدلوا بالحرية خياراً نقيضاً هو: قضاء أحدهما على أخيه الذي صار عدوه، وحل في مرتبة خياراته محل النظام، فلا عجب أن أوصل سلوكهما أهل الغوطة إلى حافة اليأس وجعلهم يخشون هزيمة لن تكون بعيدة، فيها هلاكهم.
فشلت ثورات وحروب كثيرة بسبب التضارب بين خياراتها ووسائلها، أو تضارب خيارات ووسائل القوى المنخرطة فيها، أو حتى تضارب وسائلها. ويهدد تضارب الخيارات والوسائل ثورتنا اليوم كما لم يهددها أي شيء آخر، ومن الضروري التصدي لهذه المشكلة، لأن انتصارنا قد يكمن في التخلص منها.