منذ سنوات عدة باتت الإنسانية جمعاء تقريباً، ونحن في عدادها، تعيش ما يمكننا أن نسميه، وبكل بساطة: عصر الصورة. فالصورة حولنا تطاردنا في كل مكان وفي كل لحظة. ليلاً ونهاراً.
في البيوت وفي الساحات والشوارع. في المدارس وأجهزة الحاسوب العامة والشخصية. في الساعات الرقمية وفي الهواتف الجوالة.
صور إخبارية ودعائية. صور ترفيهية وعلمية. صور منتزعة من المتاحف ومن الحياة نفسها. صور للواقع ولما هو أعلى وأدنى من الواقع. صور لكلّ شيء ولأي شيء. صور من الماضي ومن الحاضر وأحياناً من المستقبل أيضاً. صور للفرجة وللاستهلاك، للمتعة وللفائدة، صور تغزو العقول والقلوب وتدخل إلى عمق أعماق البصر والبصيرة دون استئذان وغالباً دون وسيط.
في تاريخ البشرية كله لم يسبق للصورة أن احتلت المكانة التي تحتلها اليوم في حياة الناس، كل الناس، اليومية. تفرحهم تقلقهم تحزنهم تضعهم في مواجهة العالم والعصر. وغالباً ما تمتص ما في جيوبهم أيضاً حين تكون صوراً غايتها أن تصل إلى تلك الجيوب.
فالمشهد العام الذي كان في خاليات الأيام وقفاً على شاشات التلفزة أو السينما أو الكتب الفنية أو نوادي لاس فيغاس وما شابهها، بات اليوم مشهداً يومياً كليّ الحضور يتلقفه الغني والفقير ويصل إلى كل الطبقات والأعمار والأجناس.
قد يصح أن نقول إن الصورة باتت «الشيء» الأكثر ديمقراطية في تاريخ البشرية، وقد يقول البعض: الأكثر واقعية وصدقية، على أية حال، كل هذا يبدو منطقياً وبديهياً حتى، ولكن ثمة سؤال لابد له من أن يطرح نفسه: الصورة تغزو عالمنا وتحاصره فماذا عن الاستعداد لمجابهة هذا الغزو؟ صحيح أنه غزو لذيذ وممتع ويمكن أن نستشف من خلاله ألف متعة ومتعة وألف فائدة وفائدة، ومع هذا لابد من التساؤل عما إذا كانت الصورة خيراً بالمطلق وصدقاً بالمطلق.
هنا لابد من أن نبطئ اندفاعتنا بعض الشيء لنتأمل الأمور عن كثب وبدقة تتجاوز ذلك الحماس المفرط في التعاطي مع إيجابيات عصر الصورة وهي كثيرة بالتأكيد.
ولعل المنطلق الأول لهذا التأمل يتعلق بواقع أن الصورة ليست صادقة تماماً. هي بالأحرى حيادية تنتظر الكيفية التي تُستعمل بها. كل صورة سواء أكانت متحركة أم ثابتة، فنية أم استهلاكية، ممتعة أم مضجرة، هي في نهاية الأمر سلاح في يد من يتلاعب بها. ولقد أثبتت لنا حركة التاريخ الراهنة أن التلاعب بالصورة يمثل أخطر أنواع التلاعب في العقول والأفكار.
فالمشهد، أي مشهد تبقى له براءته حتى اللحظة التي تؤطره إرادة واعية محدَّدة فتعطيه معناه. وفي هذا السياق تحديداً كان المخرج غودار يقول إن اللقطة الاستعراضية مسألة أخلاقية. ومن هنا، لأن ما من صورة بريئة، باستخدامها إن لم يكن بذاتها، ينطرح السؤال المحوري بالنسبة إلينا: لما كانت المجموعات الأكثر تعرّضاً لتلاعب الصورة – الناس العاديون الطيبون.
ولا سيما الصغار والأطفال – هم المعرضون على مدى الليل والنهار لأذى الصورة وقدرتها على التلاعب وربما غسل الأدمغة أيضاً عبر كل أنواع الصور التلفزيونية وعلى الإنترنت .
وفي لوحات الشوارع... إلى آخره، ما الذي يتعين فعله للتصدي للأذى الذي قد ينتج في كل لحظة عن استعمال الصورة؟ يمكن النقاش أياماً وأسابيع وربما سنوات حول هذه المسألة، ومع هذا ثمة جواب يمكن الوصول إليه بسرعة والتفكير فيه: ربما يكمن الترياق في تعليم الصغار منذ سنوات الدراسة الأولى «فناً» قد لا يخطر على البال: فن التعاطي مع الصورة.
فن فهم الصورة وأسرارها وبالتالي: فن انتقاد الصورة. فالحال أننا ومنذ أزمان نترك للصورة ألف مجال ومجال لغزو العقول والأفئدة. ونعرف أنه غزو لا يمكن منعه في عالم اليوم. فإذا كان الأمر كذلك، لا أقل من أن نحضّر أبناءنا للعبة تلقي الصورة. كل صورة وكل أنواع الصور، بذكاء وبفهم للكيفية التي يمكن فيها للصورة أن تتلاعب بهم.
وفي اعتقادنا أن ثمة طرقاً عدة تمكّن من هذا التحضير، أي تمكّن المتلقي من أن يفهم ويحلل وينتقد ما سوف يراه بالتأكيد وما من قوة ستمنعه من أن يراه.
أما ما نحاول أن ندعو إليه هنا فليس أكثر أو أقل من اكتساب وعي واضح بما يشاهَد وبما يضُخّ أمام الأعين. وهذا الاكتساب لابد من الشروع في تحقيقه منذ سنوات الدراسة الأولى بهدف المساعدة على خلق المتلقي الذكي المسلح بالمعرفة النقدية التي بات لابد منها في عالم الصورة الذي نعيش ذروة انتصاره على كل العوالم التي سبقته.
فالمعرفة النقدية هي الاسم الآخر للوعي. والوعي هو الاسم الآخر لعملية ولوج زمن العالم وآفاق المستقبل.