ظاهرة «ترامب» أميركية أم عالمية؟

وضع فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، العديد من المفاهيم التي رافقت ظهور العولمة، موضع الشك والتساؤل والنقد، وذلك من خلال تصريحاته ومداخلاته التليفزيونية، وخطابه الذي دأب على ترويجه خلال الحملة الانتخابية.

حيث لم تعد مفاهيم، مثل «التعددية» و«تمكين المرأة» وحقوق الأقليات وحقوق المهاجرين والتسامح وحرية انتقال الأفراد والسلع ورؤوس الأموال، وما دون ذلك من المفاهيم والمفردات والمصطلحات، التي أسهمت العولمة في تعميمها وانتشارها عبر العالم، كما كانت عليه قبل ترشح «ترامب» وفوزه، حتى بافتراض صحة تراجعه جزئياً عنها أو عن بعض هذه المفاهيم، أو إعادة صياغتها بطريقة مختلفة، تخفف من وقعها عقب فوزه.

كان تراجع هذه المفاهيم في خطاب ترامب وتصريحاته، يتم لصالح ترويج مفاهيم أخرى تناقض هذه المفاهيم، مثل «الوطن» و«عظمة أميركا» ومعاداة المهاجرين المكسيكيين، وغيرهم من المنتمين لأعراق مختلفة غير العرق الأبيض، والمهاجرين غير الشرعيين والمسلمين المتطرفين.

وتؤكد هذه التصريحات، مفهوم «الشعب الأصيل» في مواجهة الدخلاء والغرباء، والشعب الواحد في مواجهة المكونات المختلفة ثقافياً وعرقياً، في بلاد تعرف بأنها أكبر بوتقة صهر للأعراق والأجناس في التاريخ المعاصر، أي الولايات المتحدة الأميركية.

يذكرنا خطاب ترامب وتصريحاته أثناء الحملة الانتخابية، بخطاب زعيم الجبهة الوطنية، المتطرف الفرنسي جان ماري لوبان، الذي كان يردد دائماً «أنه يقول بصوت عالٍ ما يفكر فيه الفرنسيون بصوت منخفض»، في معرض تبريره لمعاداة المهاجرين والأجانب، وتحميل هؤلاء عبء تفاقم البطالة والتأمين الصحي، وتهديد الهوية الوطنية الفرنسية، ومناداته بمفهوم الأولوية الوطنية، أي منح المواطنين الفرنسيين الأولوية على ما عداهم من الأجانب، حتى لو حملوا الجنسية الفرنسية في العمل والتعليم.

أغلب المفردات والمفاهيم التي اشتمل عليها خطاب ترامب وتصريحاته، تكاد تكون نسخة متطابقة مع مفاهيم ومفردات خطاب اليمين المتطرف في مختلف بلدان القارة الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا والمجر، وحتى بعض دول الشمال الأوروبي، صحيح أن اليمين المتطرف في أوروبا، قد سبق بعقود «خطاب ترامب»، والقيم التي يمثلها.

ولكن ذلك لا يقلل من مفاجأة تبلور ظاهرة ترامب الأميركية، بل يمنحها أبعاداً جديدة، ويضفي عليها أهمية وخطورة مضاعفة، بسبب الثقل الاقتصادي والسياسي والثقافي والدولي للولايات المتحدة، منذ ظهورها على مسرح السياسة الدولية، وتأثيرها في النظام الدولي والعالمي.

ولا شك أن هذا التشابك والتداخل بين ظاهرة «ترامب» الأميركية، وبين مثيلاتها في أوروبا، كما أشرنا، يثير التساؤل حول ما إذا كانت «ظاهرة ترامب» أميركية، أي تخص أميركا فحسب، أم أنها ظاهرة عالمية ودولية، والإجابة المرجحة في تقديري، هي أن ظاهرة ترامب أميركية، بقدر ما هي كونية ودولية، فهي أميركية، لأن هذه الظاهرة خاطبت قطاعاً كبيراً من الناخبين الأميركيين المهمشين من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطي من ذوي الياقات الزرقاء، أولئك الذين تأثروا سلباً من جراء العولمة.

وأصبحوا ضحايا التوزيع اللا متساوي لثمار العولمة وعوائدها، وكذلك شرائح عديدة من المواطنين الأميركيين، الذين تأثروا بطرق مختلفة من توقف بعض الصناعات وانتقالها إلى حيث التكلفة المنخفضة للعمالة، بالإضافة إلى شرائح أخرى من المواطنين، يشعرون أن المؤسسة السياسية الحاكمة، لا تعبر عنهم، وجميع هؤلاء صوتوا بشكل انتقامي من جانب، وبحثاً عن البديل من جانب آخر.

وهكذا، فإن ظاهرة «ترامب» تستمد جذورها وتقاليدها من داخل المجتمع الأميركي، الذي تتزايد فيه معدلات اللا مساواة، مقارنة بالعديد من الدول الأوروبية، وفي نفس الوقت، تتوافق وتستلهم روح العودة الأوروبية للإيديولوجيات المنغلقة، التي تتمحور حول الحدود والعزلة والأولوية الوطنية، ومناهضة الدخلاء والغرباء والوافدين، والبحث عن الشعب الأصيل.

وبناء على ذلك، فإن ظاهرة ترامب أميركية وعالمية، سبقها ظهور اليمين الشعبوي والمتطرف في العديد من الدول الأوروبية، وتبلور الاتجاه إلى العزلة والحدود ورفض الاستمرار في البقاء في كيانات تتجاوز حدود الدولة والوطن، كما حدث في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ولأن الولايات المتحدة الأميركية ليست كبقية دول العالم، من حيث أهميتها وثقلها الاقتصادي والعسكري والمالي والتكنولوجي والعلمي، ودورها في السياسة العالمية والدولية، فإن ظاهرة ترامب، تصبح عالمية بمعنيين، الأول لأنها أميركية، أما المعني الثاني، فهي، أي ظاهرة ترامب، تعني تتويجاً لهذه الرؤى والتيارات في السياسة العالمية، ودفعها إلى الصدارة، ورفع الحواجز والعراقيل.

وتبقى بعد ذلك كيفية التعامل العربي مع هذه الظاهرة، والذي يتمثل في تقديري في منهج التعامل البراغماتي، أي القبول والتعامل مع الجانب الذي يهمنا، وهو هنا محاربة الإرهاب والتطرف، والموقف من سوريا، وذلك لا يعني بالضرورة القبول بكافة مواقفه إزاء الأقليات والمرأة والمهاجرين والإسلام، ولا ينطوي ذلك بالضرورة على أي انتهازية من نوع ما.