احتفل في القاهرة قبل أيام، بذكرى مرور خمسة عشر عاماً على تأسيس واحد من أهم المراكز الثقافية في العالم العربي الحديث:
المركز القومي للترجمة، الذي أسسه الدكتور جابر عصفور في عام 2006، ليستكمل فيه عملاً جباراً كان قد شرع فيه، ضمن إطار المجلس الأعلى للثقافة، يوم انتهت مهمته في هذا الأخير.
وكان لا يزال عليه أن يكمل ذلك العمل الكبير الذي يقوم على اختيار وترجمة ونشر أعداد هامة من الكتب التي كان لا بد أن تصل إلى القارئ العربي. لقد ترك الدكتور عصفور المركز قبل سنوات قليلة، ولا سيما بعد أن انتزعه عمل وزاري عابر من ذلك العمل المدهش الذي قام به. وهو عمل مدهش نوعياً وكمياً.
صحيح أن المجال هنا لا يتسع للإسهاب في الحديث عن كل ما جرى وأُنجز على طول التاريخ القصير نسبياً، الذي يتألف منه عمر المركز حتى اليوم. حسبنا هنا أن نقول إن تعداد الكتب الصادرة، منقولة من عدد لا يحصى من اللغات، يصل إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف عنوان في مجالات العلوم الإنسانية والعلوم البحتة والأدب والتاريخ والفنون والفلسفة والسياسة والرحلات..
باختصار، في كل المجالات الفكرية والفنية. وهو رقم لا يستهان به بأي شكل من الأشكال. ومع هذا، ليس الحديث عن إنجازات المركز القومي هو ما يهمنا في المقام الأول هنا.
ما نريد التوقف عنده في هذه العجالة، أمر آخر تماماً. أمر قد يكون من الملائم أن نبدأه من ملاحظة ستبدو للوهلة الأولى غير ذات علاقة. ولكن مهلاً!
في حياتنا العربية ثمة وظيفة أو منصب غالباً ما لا يكون له وجود. ونعني به «الرئيس السابق». ففي العديد من البلدان، يبدو من المستحيل العثور على من كان صاحب المكان الأول سابقاً، سواء في السياسة أو الوظيفة العامة أو أي مؤسسة من المؤسسات. وفي السياسة خاصة، حيث إن أي رئيس سابق لن يكون له مكان سوى القبر أو السجن.. أو، في أحسن الأحوال، يرمى في وهاد النسيان ويُعزل في وحدة تكون شديدة القرب من الموت. غالباً ما يبدأ كل شيء وكل تاريخ مع الرئيس الجديد (أو المدير أو المسؤول)، الذي يكون أول ما «ينجزه»، محو آثار من سبقه، والذي كان بدوره قد محا آثار سابقه هو الآخر. وهكذا...
لكن الحال لم تكن كذلك في الاحتفال الذي شهدناه في القاهرة قبل أيام، خلال احتفال المجلس الأعلى للثقافة والمركز القومي للترجمة، بذكرى تأسيس هذا الأخير، وذلك بالتواكب مع مؤتمر للترجمة أقيم في تلك المناسبة. والآن، إذا ما أحب القارئ أن يسألنا عن العلاقة بين هذه السطور الأخيرة والفقرة السابقة، سنسارع بإخباره أن العلاقة أكثر من واحدة. هي علاقة مزدوجة بالأحرى.
فالحال أن نجم الاحتفال كان بالتحديد، مؤسس مركز الترجمة، والرجل الذي كان قبل ذلك قد جعل من المجلس الأعلى للثقافة، بيتاً للعرب في كل معنى الكلمة حتى طوال سنوات كانت فيها القاهرة على خلاف أو تنافر مع العرب.
هو لم يأبه بذلك، وعمل جاهداً كي يحسّ كل مثقف ومفكر وأديب عربي أن له بيتاً حقيقياً في المحروسة. جابر عصفور، الغائب عن الساحة منذ ما لا يقل عن سنتين، كان منظره مهيباً وهو جالس بين وارثيه في الأمانة العامة للمجلس والمركز، يتحدث عن الإنجازات والآمال والمشاريع، بلهجة توحي بأنه لا يزال موجوداً هنا، يشرف على العمل، ويوزع الأعباء، ويستنفر الهمم للنهوض أكثر وأكثر بمشروع أعطاه في الماضي كل لحظة من حياته.
وها هو اليوم، كمسؤول سابق له، يعتبره جزءاً من كينونته، وها هم ورثته فيه يعترفون به ويجلسون بين يديه كالمريدين النجباء، في مشهد ندر مثيله في عالمنا العربي...
غير أن هذا يظل بسيطاً أمام الوجه الآخر من العلاقة المزدوجة التي أشرنا إليها أعلاه: ذلك الوجه الذي مثل، خلال الكلمة التي ألقاها عصفور.
إذ إنه فيها لم يتوانَ عن إعادة الفضل إلى أهله. فصحيح أن عصفور، مثلنا جميعاً، لا يستسيغ الخطايا السياسية التي اقترفها نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكن هذا الموقف، الحاسم بالنسبة إليه، لم يمنعه من أن يقول كل الكلام الطيب الممكن في حق زوجة الرئيس الأسبق «السيدة الفاضلة سوزان مبارك، التي بفضلها تم تأسيس هذا الصرح الفكري الكبير...».
لا يجهل جابر عصفور، أن مبارك وكلّ آله هم اليوم مغضوب عليهم. لكن وفاءه لم يسمح له أن يتجاهل الجهد الذي بذلته زوجة «الرئيس السابق» لخدمة الثقافة. فجرؤ على قول ما لا يقوله أحد... وهذا أيضاً أمر نادر في حياتنا العربية، أليس كذلك؟.