يقال عادة في مجال علوم الإنسان البيولوجية، إن ثمة من بين العلماء من يؤكد أن ما يستخدمه الإنسان، أيّ إنسان، من قدراته العقلية الحقيقية، يكاد لا يتجاوز نسبة ضئيلة جداً من قدرة الدماغ الحقيقية.
وثمة من يستطرد في هذا السياق قائلاً إن نسبة التطور التي حققها الكائن البشري في مجال مضاعفته القدرة التي يستخدمها فعلاً من دماغه، ومنذ فجر وجود الإنسان المفكر (هومو سابيانس)، لا تزال ضئيلة جداً، فإن قُيّض للإنسان حقاً أن يستخدم قدرات دماغه الكاملة، لدخلنا في عوالم وأفكار وإمكانات لا قبل لنا بتخيلها الآن.
قد يكون هذا الكلام ثابتاً علمياً وقد لا يكون. فهذا ليس شأننا هنا، بل شأن ألوف الدارسين والباحثين حول العالم، مثلهم في هذا مثل الساعين إلى معرفة ما إذا كنا الكائنات الحية الوحيدة في هذا الكون. صحيح أنها مقترحات مغرية ورهيبة ورائعة، بحسب وجهة النظر التي ننظر منها، لكننا واثقون أن الإنسان سيحتاج ألفيات أخرى من السنين قبل أن يصل إلى يقينات يبحث عنها اليوم بدأب وحماسة.
ما هو شأننا هنا، هو الانتقال من الحيز الفردي على الصعيد العالمي، إلى الحيز الجماعي على الصعيد العربي، وذلك كي نطرح السؤال الذي قد يوحي به إلينا ذلك «اليقين العلمي»، الذي افتتحنا به هذا الكلام. وسؤالنا في منتهى البساطة:
هل ترانا عرفنا، على مدى حياتنا العقلية المنظورة في الماضيين البعيد والقريب، كيف يمكننا أن نستخدم القدرات الفكرية العربية التي لو نقيسها بكل المعايير والقواعد الحسابية والعاطفية والهندسية، على الأقل قياساً على العديد من الأفراد العرب المميّزين في أعداد لا تحصى من المجالات، سنجدها، ولا سيما في منافيها الداخلية والخارجية والبين – بين، هائلة، تكاد تكفي لبناء صروح العديد من الأمم والمجتمعات؟، نعرف جميعاً أن ما نقوله ليس لا من نوع الفخر القومي، ولا من صنف الخيال العلمي.
ولن نكون في حاجة هنا إلى تعداد أسماء وتحديد أماكن ومهمات وتواريخ تكاد تملأ مجلدات لا تحصى. كذلك لا نعتقد أننا في حاجة إلى التذكير بأعداد لا تُحصى من حالات وحكايات، انطبق فيها بحذافيره ذلك القول المأثور: لا مكانة لنبي في بلده!
فالحكايات في هذا المجال على كل شفة ولسان، وجميعها تكاد تتحلق من حول واقع واحد، هو الواقع البائس للأفراد على محك حياة الجماعة. كما تتحلق من حول نجاحات فردية تنتشر على رقعة العالم كله لأفراد لفظتهم مجتمعاتهم، ثم أقامت لهم نُصباً حين وصلتها أخبارهم، واعتبرتهم «معجزات من الصناعة المحلية»، حتى دون أن يدروا هم بذلك.
فنتيجة أي شيء هو هذا الواقع؟. بكل بساطة، وعطفاً على الفكرة التي بها افتتحنا كلامنا هنا، هو نتيجة عدم قدرتنا، مجتمعات ومؤسسات، وربما منذ حصلنا بطرق أو بأخرى على تلك الاستقلاليات التي لم نعرف أبداً كيف نستفيد منها. نتيجة عدم قدرتنا على استخدام – والاستفادة من – ذلك الفائض الكبير من المهارات والعقول والإمكانات المحلية، مكتفين باللجوء إلى الحد الأدنى، وربما الحد الوظائفي الأقل قدرة على الخلق والإبداع، فيما تركنا للعالم الخارجي أن يجتذب ويغري ويستوعب ملايين العرب، مستفيداً من طاقاتهم في نوع من قدرته على ما نسميه عادة: وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
وبهذا، لا بد من أن نقر أننا في تكالبنا أمام كل ما هو سهل وممتثل و«مضمون»، تركنا الجزء الأكبر من العقل الجماعي الذي يفترض أن مجتمعاتنا تمتلكه أصلاً «خارج الخدمة». وبالتالي، خارج المكان.
وهذا دون أن نتحدث عن طاقات أخرى، تركناها هي الأخرى خارج القدرة على الفعل والإبداع في المجتمع، من النساء اللاتي لا تزال أعداد هائلة منهن غير قادرات على البرهنة على قدراتهن، إلى المبدعين والفنانين والمفكرين الذين بعد حماساتهم الأولى، سرعان ما يجدون أنفسهم مغمورين برتابة الحياة الكئيبة التي تفرغهم من كل طاقاتهم الخلاقة، إلى الشبان الذين كثيراً ما سمعنا تساؤلات مرتعبة حول الأخطار التي يمثلونها وحول الجهل المطلق بـ «ماذا نفعل بهم؟»... فهل نكمل اللائحة؟ ستكون طويلة جداً بالتأكيد.
لذا، سنكتفي بالقول على سبيل الختام، إن حالنا العربية تجاه هذا «الفائض» من الدماغ، هو نفسه حال الدماغ البشري تجاه الفائض المذهل لقدراته. ولكن مع فارق أساسي: حتى اليوم، يبدو فائض الدماغ البشري، فائضاً عن حاجة الإنسان. أما فائض العقل العربي، فيبدو واضحاً أن قيلولته القسرية أو انزياحه من مكانه، والحالان سواء، مسؤولان إلى حد كبير عما نحن فيه على امتداد رقع كبيرة من الجغرافيا العربية.