كم كنت سيئ الحظ في البداية وغبياً في النتيجة عندما اجتاحتني رغبة غزال فتيّ بأن اقفز عالياً، وقد فعلت، فصعدت التلة رشيقاً وانزلقت قدماي وتدحرجت كبطة بلا أجنحة، حيث يكون الوزن ثقلاً مضاعفاً على الساق والكاحل والقدم. فكانت الكارثة، فلم تسعفني رشاقة الصعود ولا قوة الهبوط ولا خبرات التوازن ومقاومة الجاذبية اللعينة، تكسرت العظام وطقطقت مثل كسارة بندق حتى دوت في مسامعي، حينها ادركت أن يباس العظم من تقدم العمر. كنت فعلتها متحدياً ولدي أعلمه الصعود الصعب للتلال، لكنه هرع ضاحكاً غير مدرك أن السقوط الحر قد فتت كاحلي، اخبرته بضحكة مُرّة متنكراً لألمي بأن كاحلي قد انكسر، وظنني مازحاً، فكيف لا، وقد اخبرته ذلك بكبرياء الجريح الذي لا يريد أن يخدش هالة بطولة الأب القوي. قاومت ضعفي وأخفيته تجاه الألم الذي ينبض في محيط قدمي ويسري كنزول مطرقة على رأسي.
على قدم واحدة، وبأخرى متدلية، وبأنين يتأرجح بين الضحك المصطنع والبكاء الصامت، اتكأت على ولدي الذي بدأ يدرك مع كل خطوة عرجاء حجم المصيبة التي حلت وألمت بأبيه «البطل». سارع أحدهم وقدم لي كتف المساعدة ومكّنني ذلك من الابتعاد عن تلك التلة الكاسرة التي يلهو عليها الأطفال صعوداً ونزولاً كالغزلان من دون عناء أو خوف من تعثر أو التواء قدم، يتقافزون في عقولهم وتطاوعهم أجسادهم اللينة في انسجام بين الرغبة واللهو والمرح. وأخيراً، استطعت جاهداً أن القي بجسدي ممداً قدمي المعوجة تحت إحدى الأشجار المنعزلة المطلّة على التلة اللعينة. وتحت وطأة الألم حاولت هذه المرة أن أخفي خيبة أملي بقوة جسدي بأن أعبر عن حجم الألم مبرراً أن التلة زَلِقة ويجب صيانتها.
تحت الشجرة العجوز الباسقة، وفي تلك العتمة، تنفست الصعداء لحرية المكان وخصوصيته رغم أنني في حديقة عامة مكتظة بالعائلات، وبمعنى أدق تنفست آلامي وأصبح بإمكاني أن أئن وأبكي وأصرخ وأتلوى وأشهق وأزفر كيفما شئت متحايلاً على آلام عظم من دون أن يسمعني أحد غير ولدي الذي انكسرت أمامه لحظة انكسرت قدمي، وعزائي أنه قد أدرك حجم الألم الذي أنا فيه، وهو الذي بادر فوراً بالاتصال بالطوارئ لإحضار سيارة اسعاف عاجلة.
وبالفعل خلال عشر دقائق كانت سيارة الإسعاف بأنوارها التحذيرية قد وصلت إلى مدخل الحديقة، ورأيتهم من بعيد يهرولون نحوي، وكلما اقتربوا أكثر تبعهم الفضوليون من الصغار والكبار، وفي ثوان معدودة، انتشر الخبر في الحديقة، أن حالة وفاة قد حصلت للتو تحت الشجرة الكبيرة النائية، تقاطر الجميع وأحاطوا بي من كل حدب وصوب، نظرات الشفقة يقذفها الفضوليون من كل الجهات، فهذه المرأة الممتلئة الأربعينية تقبض بيد ولدها وتشير إلى قدمي وتقول له احذر من اللعب الخطر ولا تتسلق هذي الشجرة، وذاك الرجل ذو النظارات السميكة وقد ارتدى سروالاً مخططاً فضفاضاً أشبه بالبيجاما وقد اقترب كثيراً من المسعفين وحدق في كاحلي وسأل مراراً وتكراراً بالعربية ولغة إنجليزية متكسرة مفادها: كيف حدث هذا؟ أصابني إحباط يعادل وتذكرت المقولة الشهيرة «فضيحة بجلاجل» أغلقت عيني كي لا ارى تلك الرؤوس التي تتزاحم تتبادل الفراغات والزوايا المطلة علي من كل الجهات وكأنني طبق منسف أردني يوم عرس. يا إلهي، همهمات وهمسات وتأويلات وتحذيرات ونصائح متتالية وفتاوى الطب البديل، فسمعت من أوصى بخليط زيت الزيتون وورق الجرجير المجفف المطحون وآخر جادله فوق رأسي بأن الأفضل هو دهون العسل ودبس الرمان مع بعض التعاويذ المغلفة بجلد الماعز، وسمعت أحدهم يقول لآخر بشفقة العارف الحكيم إنه لا يوجد علاج الا بترها منعاً للغرغرينا والموت الحتمي.
تزاحمت واختلطت على مسامعي الغمغمات الفضولية مع دبيب أقدام المتقاطرين نحوي الذين تركوا العابهم وسُمّارهم في ارجاء الحديقة وهرعوا إلى الشجرة وكأنها شاهد قبر يسترقون النظرة الأخيرة على الميت الطازج.
وما إن فتحت عيني ثانية وما زلت محافظاً على رباطة جأش الخمسيني المُكابر الذي يخفي بأن جسده قد خذله، رأيت وجوهاً متلصصةً وعيوناً جاحظةً من كل الأعمار، وقد تحولوا إلى آكلي لحوم الفرائس حيث ينهشون بأسئلتهم ونصائحهم المجانية الجوفاء وفضولهم البليد العنيد.
أعاق الجمْع المتطفل عمل المسعفين وعبثاً حاول المسعف أن يبعد الحشد المتلصص، نظرت إلى ولدي ذي الثلاثة عشر ربيعاً، وشاهدت الكثيرين ممن يحيطون به يستفسرون منه كيف مات والده، متى وكيف ولماذا وأين وما ومن السبب؟ هكذا اذاً، تحولت الحادثة إلى حدث جماهيري، ومهرجان للمتطفلين ومأتم معلن. ذهب الوجع من قدمي، ليس إلا لأن ثمة ألماً اجتماعياً أكبر وأوسع قد أصابني وانتشر كحمم بركان في قلبي وشراييني، واختنقت بمن حولي، فصرخت بأعلى صوتي واقفاً على قدم واحدة مترنحاً متكئاً على جذع الشجرة: انصرفوا... انصرفوا إلى نزهتكم. وحَجَلت متأرجحاً شاقّاً جموع المتطفلين اجداداً وآباءً وأحفاداً، وكأن الفضول البليد فيهم جين يُوَرّث.
أوقفني المسعفان وهرولا بي محمولاً هاربين إلى سيارة الإسعاف، ومن خلفنا جحافل الأطفال يتسابقون ليروا وجه ذلك الرجل الذي خانه كاحله فقتله.