مناسبات ومؤتمرات وحتى مهرجانات عديدة أقيمت في عدد من المدن والعواصم العربية الأساسية خلال الشهور الأخيرة، يكاد محورها الأساسي يكون موضوع التكامل الثقافي العربي، أحياناً بهذا الاسم الصريح، وأحياناً بمسميات مستترة، ولعل أكبرها وأهمها وأكثرها صراحة، المؤتمر الذي أقامته مؤسسة الفكر العربي في أبوظبي، وأصدرت لمناسبته تقريرها العربي التاسع حول التنمية الثقافية وتخصص هذا العام، في عمل فريد من نوعه، ويحمل في عنوانه نفسه موضوعه وطموحه:
الثقافة والتكامل الثقافي في دول مجلس التعاون.
صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي تُبحث فيها على صعيد عربي شامل، شؤون الثقافة الخليجية العربية وشجونها، لكنها المرة تحمل من الشمولية والغوص في التفاصيل، ما يعطي هذه البادرة بعداً تاريخياً، لا يقل أهمية عن كون المؤسسة المبادرة ارتأت أن تكون مبادرتها هذه هدية لدولة الإمارات لمناسبة عيدها الوطني.
كل هذا بديع ومفيد ومشروع، غير أن ما لا بد من التوقف عنده هنا، هو الفكرة الأساسية التي حركت المبادرة، والتي تتمحور من حول فكرة التكامل، خاصة أن هذا التكامل إن كان قد دُرس وقورب في فصول التقرير، بما يركز على ما يتعلق بدول مجلس التعاون، فإن اللافت أن أقلاماً عديدة ومن شتى أنحاء العالم العربي، قد ساهمت في الكتابة والصياغة ما يمدّ حيّز التكامل إلى أبعد من الحدود المرسومة، ليجعله جزءاً من تكامل عربي أكثر شمولاً.
ولكن يبقى السؤال: التكامل بين من ومن؟ والتكامل من حول ماذا؟ في اعتقادنا أن التكامل بين المثقفين العرب من مبدعين ومفكرين، سواء انتموا إلى الحيز الجغرافي الذي يتناوله التقرير، أو الحيز الأشمل الذي ينتمي إليه كتّاب التقرير ومحرروه، لم يعد موضع بحث أو تساؤل. هو متحقق منذ أزمان بعيدة، بل متحقق كالبديهة في العديد من المجالات الفكرية والإبداعية، وحتى الاجتماعية أحياناً، وربما التنموية أيضاً، إذ يعرف كل واحد حجم الاستثمارات والتوظيفات والعمالة، وما إلى ذلك من مجالات لا تعد ولا تحصى.
لن يكون من الحشو اللغوي هنا، أن نقول إن المثقفين العرب باتوا يعرفون بعضهم جيداً، و«يتكاملون» بشكل يبدو أحياناً كالبديهة، ولا سيما منذ دخل الاستثمار الخليجي وغير الخليجي في هذا الميدان، من طريق شتى أنواع الدعم واللقاءات والمهرجانات والجوائز والمؤتمرات، إذ إن أياً من هذه الفاعليات، إلا في ما ندر، لم يكن إقليمياً أو جهوياً... بل كان ولا يزال على الدوام عربياً شاملاً، ويعرف أي كاتب عربي، وأي مبدع أنه قادر دائماً على الزعم أنه يبدع، من أجل ثلاثمئة مليون عربي، وأن من سيتابع إبداعه نقداً ودراسة وتحليلاً، من النادر أن يتناوله في «خصوصية» محاية باتت غير ممكنة، ولا سيما اليوم مع الفضاءات المفتوحة والفضائيات الفاغرة أفواهها لتبتلع كل شيء.
إذاً، لا بد أن نحسم ونقول إن التكامل إن كان بين المثقفين العرب، فهو قائم ولا يحتاج مؤتمرات إضافية. ولكن هل هو تحديداً المطلوب من فكرة التكامل؟، ليس هذا مؤكداً. المؤكد هو أن المطلوب هو تكامل من نوع آخر: تكامل بين المتلقّين العرب. فهؤلاء كانوا لعقود طويلة أولى من القرن العشرين، متلقين لثقافات عربية تأتيهم إما من مصر، أم الدنيا العربية في هذا المجال، وإما من بلاد الشام، التي حتى في تكاملها مع مصر، ظلت ذات إنتاج ثقافي ينافس هذه الأخيرة، ويشكل ملاذاً لمن كان يشعر بأن تنويعاً ما بات ضرورياً، ولا سيما في أوقات «الشدة»، حين كانت خلافات مصر «السياسية» مع العالم العربي أو أطراف منه، تحجب الإبداع المصري. في تلك الأزمنة، كان «التكامل» ينصنع تلقائياً ولا يحتاج إلى محركات تدفع به إلى الأمام، وبخاصة في العلاقة بين المبدع المصري والشامي من ناحية، وكل المتلقين العرب من ناحية ثانية.
اليوم، حدث تبدل جذري، وبالتأكيد بات ثمة حاجة ماسة إلى إعادة النظر في مفاهيم التكامل، لتشمل علاقات ومبادرات تكون أوسع من تلك التي يمثلها لقاء المثقفين وحواراتهم مع بعضهم البعض. ما يحتاج إليه الوضع اليوم، هو شيء آخر تماماً: مثلاً، شهور ثقافية مغربية في هذا البلد العربي أو ذاك، أو مشرقية في المغرب أم مصرية في الخليج، تفتح على الجماهير على شكل عروض سينمائية ومسرحية ومعارض كتب وتراث، وربما حفلات أكل ورقص شعبي، إلى آخر ما هناك..
في يقيننا أن هذا النوع من التكامل هو المطلوب، مع شكرنا الكبير وتقديرنا إلى من يدعوننا نحن أهل الفكر والإبداع، للقاء بين بعضنا البعض، و«التكامل» في ما بيننا بين الحين والآخر.