في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أسَرَّ لي أحد المفكرين العرب المرموقين، وقد بلغ حينها الخمسين من عمره، وكنت حينها جامعياً حديث التخرج، أعمل مساعداً في أبحاثه الفلسفية والاجتماعية والمعرفية، أسرّ لي هاجساً هامساً: أخشى أن يدركني الموت قبل أن أدرك الناس بأفكاري ورؤاي ونظرياتي الفكرية، وهي خلاصة ربع قرن من البحث المتواصل والمعمق.

وقد حالفه الحظ أن المحطات الفضائية بدأت بالبث والانتشار، فقد استضافته غير مرة محطات فضائية مرموقة آنذاك، فأبهر من سمعه من العامة والنخبة في كل الوطن العربي، وتكثفت حوله دعوات المؤتمرات الفكرية، واللقاءات الإعلامية، والحوارات الفلسفية حول المجتمع والعقل العربي وتحرره، وفهم الدين المتنور والسلطة والدولة، وبنية الصراع العربي الإسرائيلي وآفاقه.

واعتُبر منظراً ومستقبلياً يعتد برأيه، وتبوأ مقامات عليا في مجالس إدارة منتديات فكرية، وصار له أكثر من فعل ومنبر يوصل رسالته ويشرح فكره المتنور، وأذكر أنه يوماً، وبعد أن انتهت مشاركته في أحد المنتديات الفكرية العالمية.

والذي بثته عشرات الفضائيات العربية والعالمية متعددة اللغات، بحضور النخبة العالمية المفكرة، قال لي: راقني اهتمام الشباب الملحوظ، وأملي الوحيد، هو جيل الشباب، فهم وحدهم القادرون على التغيير والتقدم وتنمية المجتمعات وتماسكها.

هذه الأيام، وبعد وفاة المفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري بنحو عشر سنوات، أنظر إلى جيل الشباب، وأتذكر مقولته الشهيرة، يجب أن يحيا الإنسان بالخبز والماء ومشروع ريادي ومُبْتَكر يؤمن به ويدافع عنه، حتى تكون لحياته كامل المعنى والأثر، فما فائدة العلم والفكر الجاد، إذا لم ينتشر أو يقرأه الناس ويؤثر في سلوكهم ومجتمعاتهم. وها نحن في خضم وسائل التواصل الاجتماعي والتراسل والانتشار المسعور لآلة الإعلام الواسعة التي تجتاحنا صباح مساء.

وتتيح للجميع، فرصة الانتشار دون قلق من موت مباغت يداهم أحدهم على حين غرة، ها هي وسائل الاتصال بأشكالها تتيح للجميع الانتشار، وأي انتشار، حيث يحتكم المتصفح إلى المتصفح، فتُظهر الآراء والردود درجات الاهتمام والوعي بينهم. ولكن من بين ملايين المشتركين في قنوات التواصل الاجتماعي، تكاد تختفي النخبة التي لديها مشروع فكري إنساني حقيقي.

فالبعض يوظف هذه الوسائل لنشر تفاصيل حياته اليومية، بتفاهاتها وتفاصيلها، حتى عاد المرء بلا خصوصية، والأدهى من ذلك أن تطبيع الخصوصية وجعلها شيئاً عاماً ومستباحاً وعادياً، يعمل على تعويم الترهات وخلق اهتمامات تافهة جديدة، ما كانت على البال ولا على الخاطر، وإن صادف وظهر الجاد والجيد، فسرعان ما يختفي، لقلة التفاعل، لأن الرأي الجاد يستدعي التفكير والتأمل، فيغدو نخبوياً.

ويبدو أن عامل الصورة والمرئي قد ألهب الجماهير، وأشعل النوازع والرغبات التي لا تستكين، والانخراط في هذه الظاهرة، إما بالتعليق وإبداء الإعجاب الصريح دون استحياء، جعل هذا التوجه مشروعاً استهلاكياً، حيث يقوم الإنسان بتسليع جسده، ضامناً غرائز الآخرين وجاهزيتها. وتنتشر السلعة الاستهلاكية، وتضمر في الزوايا المشاريع الابتكارية والأفكار الخلاقة لخدمة حياة الإنسان.

فالكل غارق في التفحّص والتمعّن والتعليق وتفريغ الرأي، والبعض قد يكون مبدعاً فقط بابتكار سلعة جسدية جديدة، فلم لا، فقد نجد انتشاراً واسعاً ومستعراً للمتنافسين حول أجمل الأقدام وأدق الأصابع.

تلك هي الحال، ويا لها من مفارقة، مفكر يقارع الموت ويستمهله من أجل أن يمنحه مزيداً من العمر لإكمال إبداعه الفكري الإنساني، وأجيال يضيعون حياتهم في إظهار سلعتهم الزائلة، سلعتهم التي تذوي وتترهل ويبور جمالها كهلام البحر على الشاطئ، وتحل محلها سلعة جديدة، وأجيال جديدة بمقاييس وأحكام تافهة مبتكرة.

وبالمقابل، الإبداع الحقيقي سيبقى يكابد أبد الآبدين، لزرع ما ينفع الناس في الأرض. أما المترهلون الافتراضيون، وإن تناسلوا، سيظل تسطحهم واهتماماتهم الساذجة والغرائزية غارقين في زبَدَهم ومتعة اللحظة الآنية.

لا شك أن عامة الناس تستسهل المرئي من صورة أو فيديو، وإنه لبعض ملح الاستغابة وإغواء فضول التتبع الذي يصيب أولئك الافتراضيين، ويدلون بدلوهم في كل موضوع، ولهم باع في كل مشاع، فما بالك إذا كانت سلعة غرائزية تستفز المخيلة والخيال.

حيث ينقض عليها «الفيسبوكيون» و«الانستغراميون» بالتعليق والتصفيق والتباهي والتفاخر والفحولة الافتراضية. إن الأسى، كل الأسى، على جيل أصبح لديه الجسد وأكسسواراته، جوهر مشروعه الوجودي والفكري.