من المعروف مبدئياً، أن بعض الحكام العرب، الذين وصلوا إلى الحكم من طريق الانقلابات العسكرية منذ منعطف العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين، أتوا من الأرياف، وهم كانوا في غالبيتهم العظمى، من أبناء تلك الأرياف الذين أتاحت لهم ظروف معينة خلال العهود الوطنية السابقة، أن يتعلموا ويدخلوا الكليات العسكرية، ويصبحوا ضباطاً.

وكذلك أتاحت لهم ظروف نوع من ليبرالية سياسية سادت بالتواكب مع ما سُمي بالصعود القومي أو الفكري، أن يمتلكوا أفكاراً تحولت لديهم إلى مبادرات عسكرية، تقاطعت يومها مع نكبة فلسطين وضياعها، ومن ثم البلبلة ما – بعد – الاستقلالية، تحولت إلى أيديولوجيات، اتسمت بقدر متفاوت من الشعبوية. ومن هنا، نراهم حين وصلوا إلى الحكم بالعنف أو بالدهاء، أو عبر طبخات حيكت في السفارات الأجنبية، ينقلبون ويحكمون ويتصارعون، ودائماً باسم الشعوب التي ينتمون إليها.

بشكل عام، استناداً إلى أقوالهم وبرامجهم، كان من المفترض أن تكون المناطق الريفية التي أتوا منها، المستفيد الأول من وصولهم إلى الحكم، على اعتبار أنها في نظرياتهم، كانت تلك التي وقع القدر الأكبر من الغبن عليها، وأن المدن لم تمكنها أبداً من الوصول إلى أي تنمية، وبالتالي، فإن جزءاً من أسباب الثورات كان نابعاً من ذلك الحيف.

والحقيقة أن كثراً صدقوا تلك المحاججات، وكثراً كانوا أولئك الذين خُيّل إليهم حقاً أنهم فيما كانت مدنهم تدمّر وتتراجع مقومات العيش فيها، كانت أرياف الحكام، والأرياف بشكل عام، تعيش ازدهاراً ما بعده ازدهار. والحقيقة أن ما عزز من ذلك الاعتقاد، هو الدعايات الرسمية التي حلت بديلاً من المعاينة الملموسة. والغشوة التي أصابت أهل المدن، جاعلة إياهم غير قادرين على رؤية ما هو أبعد من «حقدهم» على الأرياف، التي خيل إليهم أنها تسرق لقمة عيشهم.

والغريب في الأمر، أن أهل المدن، بصورة عامة، حتى وإن راحوا يرصدون زحف أهل الأرياف نحو تخوم مدنهم، ليشكلوا من حولها أحزمة الفقر وبيوت التنك، ظنوا أن ذلك الزحف ليس سوى امتداد وغزو يمارسهما أهل الأرياف، بعدما استكملوا السيطرة على أريافهم...

ظنوا أن القادمين إلى المدن من المناطق البعيدة، نفس المناطق التي قدم منها قبلهم أولئك الحكام الذين حكموا أصلاً باسم أولئك «الغزاة الذين غيروا وجوه المدن وريفوها لغايات في نفوسهم»، ظنوهم مستفيدين من أولئك الحكام، يريدون التمتع بخيرات البلاد، وأن يسلبوا من أهل المدن جنى أعمارهم وأناقة مدنهم ونظافتها.

كان من الصعب لسنوات خلت، إدراك أن ذلك التفكير إنما ينبع في حقيقته من واحد من أسوأ أنواع سوء التفاهم وأكثرها خداعاً بين البشر في أزماننا الحديثة.

وذلك بالتحديد، لأن الأحداث التي تعرفها بلدان عربية عديدة منذ بدايات الألفية الجديدة، ولا سيما منها تلك بالتحديد التي حكمها أولئك الانقلابيون بالنار والحديد والمكر والخداع، كشفت عن واحدة من أكبر الفضائح في العصور الحديثة:

كشفت عن أرياف في تلك البلدان، ما إن اندلعت الأحداث، وصولاً إلى المجازر التي بتنا نشهدها في كل يوم. وما إن وصلت الكاميرات، كل أنواع الكاميرات، لتصور كما تفعل دائماً عندما تندلع أحداث تخرج عن نطاق الهمّ المحلي، ما إن حدث ذاك وهذا، حتى وصلت الصور إلى كل مكان، صور البشر والحجر.

فإذا بها تكشف عن عوالم وأصقاع ومناطق وخرابات، إن كانت تنتمي إلى زمن، فهي تنتمي أكثر ما تنتمي إلى ما قبل العصور الوسطى: فقر وجوع وتخلف وافتقار تام لآي بنى تحتية، ولأي مقومات من تلك التي باتت أساسية لعيش الدواب، فكيف بالإنسان.

بغتةً، إذا بدت واضحة تلك الحقائق التي تكمن خلف ذلك الزحف المرعب الذي كان يحيّر كثراً من أهل المدن، فيما يتفرجون على أكداس بشرية تتجمع من حول مدنهم.

بغتةً، فهموا أن تلك الجماعات البشرية «التي راحت تغيّر وجوه المدن»، لم تأتِ إلى هنا باختيارها. بل تحديداً لأن أولئك الذين أتوا من مجاهلها وحكموا باسمها، ارتكبوا تلك الفضيحة الكبرى، التي احتاج الأمر إلى ألف مجزرة، وعدد لا يستهان به من الحروب، فضيحة ترك الأرياف تزداد بؤساً، والفقر يزداد استشراء، والملايين من المواطنين لا ينالون أي قسط من تلك الثروات الضخمة التي نُهبت باسمهم.

ترى، أوليس هذا المشهد الذي كان مخفياً فانفجر أمام أعين العالم، بفضل الصور التي لا تهادن، نوعاً من جرائم الحرب... أو بالأحرى، من جرائم سلام كان أدهى من الحروب وأقتل؟.