تاريخ تقدم البشرية هو تاريخ قدرة الإنسان على الاستثمار، أي توجيه جهوده ليس لإشباع حاجاته المباشرة وإنما بتشكيل أدوات وظروف مناسبة لزيادة قدرته الإنتاجية فيما بعد، وهذا هو الاستثمار ولكن هذا الاستثمار يحتاج إلى موارد وهي لا تأتي إلا من مدخرات سابقة محلية أو خارجية وعندما تكون الدولة فقيرة فإن متوسط الدخل الفردي يكون بالضرورة منخفضاً أيضاً وبالتالي فإن حجم المدخرات الوطنية يكون محدوداً ولذلك كانت بداية الثورة الصناعية قاسية على معظم الأفراد.

قامت هذه الثورة في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وكان لا بد من توظيف الموارد المتاحة لبناء قاعدة صناعية في دولة فقيرة ومن هنا كانت مرحلة بداية التصنيع بالغة القسوة على غالبية العمال البريطانيين فبدأ تشغيل النساء والأطفال لساعات طويلة وفي ظروف صحية بالغة السوء، وتركز العمال في مناطق مزدحمة لا تتوافر فيها الشروط الصحية السليمة.

ربما الدولة الوحيدة التي تمت فيها الثورة الصناعية من دون آلام شديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، نظراً لتمتعها بموارد طبيعية هائلة وتدفق رؤوس الأموال الأوروبية عليها. ومع ذلك فقد عرفت الولايات المتحدة في نفس الوقت أكبر مظاهر البؤس والاستعباد في الزراعة تجاه العبيد المختطفين من إفريقيا.

ولعل أهم قصة نجاح في العصر الحديث هي نهوض عدد من الدول النامية الفقيرة إلى درجة متقدمة من التصنيع والتقدم وأشهر هذه التجارب هي ما عرف باسم النمور الآسيوية (كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، هونج كونج) وانضمت إليها بعد ذلك ماليزيا وإندونيسيا.

وقد اتبعت معظم هذه الدول سياسات للتصدير والانفتاح على العالم ولعل أهم ما يميز هذه المجموعة الناجحة في الأداء الاقتصادي هو أنها كلها وبلا استثناء استطاعت أن تحقق معدلات عالية من الاستثمار في حدود 30% من الناتج الإجمالي وذلك لفترة مستمرة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود. وقد قام اقتصاد معظم هذه الدول – بما في ذلك الصيني – على الانفتاح على الاقتصاد العالمي وجذب رؤوس الأموال الأجنبية.

ويقودنا ذلك إلى قضية أخرى هي الاقتراض وأتحدث هنا عن اقتراض الدول وليس اقتراض الأفراد فهذه قضية أخرى ومع ذلك ينبغى تأكيد أن وجود قطاع مالي كبير ومتقدم هو أحد أهم معالم الاقتصاد الصناعي الحديث ولا تستطيع دولة أن تحقق تقدماً مضطرداً من دون هذا القطاع المالي وعلينا أن نتذكر أن أكبر مدين في العالم هو الولايات المتحدة.

ويطلق على الاقتراض «الائتمان» أي الثقة، فأنت لا تقرض الضعيف بل تتصدق عليه ولكنك تمنح القرض لمن تأتمنه ونظراً لقوة الاقتصاد الأمريكي فإن العالم يتعامل بالدولار ولكن العالم لا يحصل على هذا الدولار منحة من الولايات المتحدة، بل مقابل تصدير وسلع وتمويل استثمارات للولايات المتحدة، والدولار هو في نهاية الأمر دين على الاقتصاد الأمريكي، ولكنه لا يطالب به أحد فيظل يتداول خارج الولايات المتحدة.

يقدر حجم الدولارات الأمريكية – نقداً خارج البنوك – بنحو 1.34 تريليون (التريليون ألف مليار) أي بواقع 4200 دولار لكل أمريكي هذا بالإضافة إلى ما توظفه دول العالم في أصول الخزانة الأمريكية فأكبر مدين في العالم هو الولايات المتحدة، وهي تتمتع بهذا الوضع نتيجة لقوة الاقتصاد وليس لضعفه وهكذا تستفيد الولايات المتحدة بنوع من الريع أي الحصول على إيرادات من دون جهد لمجرد قوتها!

وقد رأينا أن نجاح المعجزة الآسيوية ومن بعدها الصين وإلى حد كبير الهند إنما يرجع إلى أنها استطاعت أن تحقق معدلاً مرتفعاً للاستثمار السنوي ولفترة مستمرة لما يقرب من ثلاثة عقود، مما نقلها من مجموعة الدول النامية (الفقيرة) إلى مجموعة الدول الصناعية الصاعدة والتي تنافس الدول الصناعية الكبرى في التصدير كما تشاركها في العديد من المجالات.

أما في مصر على سبيل المثال فالعائق الرئيسي أمام الاقتصاد هو نقص معدلات الاستثمار نتيجة انخفاض القدرة على توليد مدخرات محلية كافية فمعدل الاستهلاك يدور حول 85% من الناتج الإجمالي، وبما يجعل الادخار المحلي في حدود 15% من هذا الناتج وهي نسبة غير كافية لتحقيق معدلات عالية للنمو، كما هو حال النمور الآسيوية، فمصر تخصص من مواردها المحلية (الادخار) نصف ما تخصصه النمور الآسيوية للاستثمار السنوي فضلاً عن مشاكل استمرار ارتفاع معدلات النمو السكاني.

في ظل هذه الظروف وإذا أردنا أن نلحق بمسيرة الدول الصناعية الجديدة، فلا بد من تحقيق معدل سنوي للاستثمار في حدود 30% من الناتج الإجمالي، والمطلوب زيادة الاستثمار إلى معدلات قريبة مما حققته الدول الآسيوية بموارد محلية في حدود الإمكان وبموارد أجنبية كلما أتيحت الفرصة أما إذا استخدمنا القروض الأجنبية في أغراض غير استثمارية وبما يزيد الطاقة الإنتاجية للبلد، فهذا خطأ.