غريب أمر الأحياء المهووسين بالشهرة الساعين لها، ولكنهم لا يمتلكون أدنى مقوماتها، فلا عِلم ولا فن ولا أدب ولا موهبة أو كاريزما، لكنهم مَهَرة في توظيف العلاقات الاجتماعية لصالحهم، يحاولون إشهار أنفسهم حتى ولو على حساب الموتى من المشاهير، وكأن للراحل الأصيل نصيب ينهشه الحاضر المزيّف من مدّعي الثقافة والعلم والفنون، فينسبون لأنفسهم ما ليس فيهم معتمدين على ألا أحد سوف يحاسبهم أو يكذّبهم.
يؤكدون أنهم كانوا على علاقة وثيقة مع ذاك الفنان المتوفى أو تلك الكاتبة الراحلة. وسرعان ما تنتشر مقالات التأبين والرثائيات والبكائيات، وثمة شيء واحد يجمع هؤلاء، مصاصي شهرة الأموات، أنهم يبكون الغائب في مطالع مقالاتهم، ولكنهم يحيون أنفسهم بإشهارها باستغلال معرفتهم الضيقة بالراحل.
يختلقون الأحداث والروابط الوطيدة والمواقف التي تظهر المكانة المرموقة التي يحظون بها في نفس المبدع الراحل وفكره وحياته. فلم لا، ما دام أنه لن ينهض من مرقده ليكذبهم ادعاءاتهم.
يتباكون عليه في السطرين الأوليين، وأما المقال بأكمله فيتحدث عن أنفسهم ورأي الراحل الشهير فيهم، وكيف أنه آمن بمقدرتهم الإبداعية، وأنهم كانوا ذراعه الإبداعية والإلهامية لأفكاره الخلاقة، وغير ذلك. بل إن منهم بلغ من وقاحة استغلال الموتى بأن اختلق أموراً شخصية جعل من الحي الهامشي مصلحاً اجتماعياً أو مسانداً نفسياً للمتوفى في آخر أيام حياته.
المسألة هنا ليس الغائب المبدع الموهوب الذي قد رحل عن الدنيا؛ فعلى روحه السلام، المسألة هنا ذاك الأفّاك الذي أساء للغائب واتكأ على معرفته السطحية بالراحل واستغلها أسوأ استغلال لإشهار ذاته والحديث عن مناقبها ومثالبها وقدرتها على التأثير في حياة العظماء الراحلين.
قال أحد هؤلاء المُدَّعين، إنه كان وثيق الصلة مع الراحل العظيم في آخر أيامه، وقد بلغت المودة بينهما أنهما أدمنا أكل الحلوى في المحال الشعبية بشكل يومي على اعتبار أن الراحل يؤمن بقداسة الموروث الشعبي، ولكننا نعلم فيما بعد أن المتوفى كان مصاباً بداء السكري من الدرجة الأولى، ما يعني أن هناك احتمالين: الأول أن هذا المدعي صديق الراحل، أو أنه كاذب ومدَّعٍ ووقح يختلق شأناً لم يحدثه ويوظفه لمصلحته، والاحتمال الأخير وهو الأرجح.
آخر، يقول إن الراحل في أواخر أيامه كان يطلبه بالاسم ليلعب معه لعبة طاولة النرد. ونعلم فيما بعد أن المفكر أصابه العمى من جراء مرض السكري في آخر أيام من حياته.
غير ذلك من الادعاءات، فالفرصة سانحة للمستغلين والأفاكين، وليس ما يعاقب عليه القانون؛ فالتافهون الأحياء عابرون لا يضيرون العظماء في قبورهم، فهم كغمامة صيف سرعان ما تتبخر، فالتاريخ مصفاة الحقيقة. فالفكر العظيم هو الأبقى وأما العلقات فتذوي وتذوب وتنتهي ولا تبقى إلا مثالاً للانتهازية إن تذكرها أحد.
وقد تنبه الكثير من العظماء، ومن باب الأمانة العلمية والملكية الفكرية والشخصية، فقد حصنوا أنفسهم من سوء الاستغلال بعد رحيلهم، فكتبوا سِيَرَهم الذاتية بتفاصيلها الفكرية، والإنسانية، وتناولوا الأثر الإبداعي لديهم نتيجة علاقاتهم الشخصية، حرصاً منهم ألا يأتي عامل توصيل البيتزا يوماً ما، ويقول إنه قد أثر في المفكر العظيم بأن ألهمه بأن خلطة البيتزا الإيطالية هي نموذج حيوي يمكن محاكاته لزرع التسامح والانسجام الثقافي بين الغرب والشرق، بين الجنوب والشمال.
وهكذا، في النهاية لا يصح إلا الصحيح، والأموات يذهبون وتبقى أفكارهم خالدة في الحقيقة، أما المدعون فأموات وهم أحياء، ومدافنهم مقالاتهم المُدّعِيَة.