كثيراً ما نقرأ أو نسمع في مختلف وسائل الإعلام تعبيرات ومصطلحات يتكرر ذكرها بصفة خاصة عند الحديث عن بعض الأزمات والصراعات ذات الطابع الدولي، وهي تبدو أحياناً مختلطة ببعضها إلى الحد الذي تضيع به معانيها الحقيقية.
لو أن الأمر يتوقف عند اختلاط معاني هذه التعبيرات والمصطلحات لدى القارئ أو المشاهد أو المستمع لكان ذلك أمراً مقبولاً ويمكن تحمل عواقبه، إلا أن الأخطر هو أن ذلك الاختلاط نفسه يبدو أنه قائم أيضاً عند بعض ممن يتخذون ويصنعون القرارات الكبرى في بلداننا تجاه الأزمات والصراعات الداخلية أو التي تدخل طرفاً فيها مع بلدان وتجمعات دولية أخرى.
ربما يفسر هذا الاختلاط في المعاني والمصطلحات بعضاً من التخبط العام الذي تتسم به سياسات كثير من بلداننا تجاه كثير من الأزمات والصراعات الداخلية أو الدولية التي تجد نفسها طرفاً فيها.
من أبرز وأهم تلك المفاهيم والمصطلحات الغائبة والمختلطة، يأتي في المقام الأول مفهوم الاستراتيجية التي تتم بها إدارة الأزمات أو الصراعات، وقد شاع هذا المصطلح في السنوات الأخيرة في وسائل إعلامنا العربية وجلسات حوارنا وفي مختلف دوائر السياسة الرسمية وغير الرسمية، إلى الحد الذي جعل منه مألوفاً للغاية على أسماعنا، بينما ظل على مستوى معناه محتفظاً بغموضه وارتباكه وتعدد معانيه.
الحقيقة أن مفهوم الاستراتيجية يتسم بوجود عديد من التعريفات والمعاني له، لكل منها روافده الموضوعية والتاريخية. إلا أن القاسم الأعظم بينها جميعاً هو أن الاستراتيجية علم وفن ينصرفان إلى الخطط والوسائل التي تعالج الوضع الكلي للأزمة أو للصراع، وتهدف إلى تحقيق الأهداف الرئيسية التي يحددها من يضع الاستراتيجية وينفذها، عبر وسائل رئيسية يتم بلورتها فيها.
ويتحدد معنى الاستراتيجية بشكل أكثر وضوحاً في إنها علم وفن وضع الخطط العامة المدروسة بعناية، والمصممة بشكل متلاحق وتفاعل منسق لاستخدام الموارد ومختلف أشكال الثروة والقوة لتحقيق الأهداف الكبرى. والاستراتيجية بذلك يجب أن تتضمن خمسة عناصر رئيسية: الهدف الاستراتيجي، ومفهوم محدد للأمن القومي، والخطة، والوسائل والأدوات، وأخيراً الموارد الأساسية الاقتصادية والعسكرية والسياسية... إلخ.
الاستراتيجية لا تنصرف فقط إلى معالجة المسائل والأوضاع العسكرية، ولكنها تتضمن معالجة لكافة المحاور الأخرى التي يمكن لها أن تساهم بدرجة ما في الصراع أو الأزمة وقضاياهما داخلياً وخارجياً، وهي يجب ألا تتسم بثبات أو جمود، فبعض عناصرها متغير بما يمكن أن يؤدي إلى تغيير بعض أسسها، فهي كائن متطور وقادر على التلاؤم مع مقتضيات الزمان والمكان وأوضاع ميزان القوى المتحركة باستمرار.
الاستراتيجية أيضاً يجب أن تحتوي على تحليل وعلاقات ونتائج: تحليل للصراع أو الأزمة وأطرافهما الذاتية والمضادة والظروف التاريخية التي صاحبت نشأتهما وتطورهما، ثم رصد للعلاقات الأساسية داخل هذا الصراع أو تلك الأزمة، وأخيراً الوصول إلى نتائج محددة وواضحة حول كل تلك القضايا.
السمات الرئيسية التي يجب أن تتوافر في أي استراتيجية سليمة هي: الأولى، أن تعتمد على وقائع تاريخية صحيحة والاستخلاصات الأساسية لها، لا مجرد التجريد النظري حولها.
السمة الثانية أن تكون شاملة، فلابد أن تمتد إلى كافة القضايا الأساسية للصراع أو الأزمة، وتتناولها بالتحليل والتحديد الدقيق.
السمة الثالثة: أن الاستراتيجية تعكس رؤية محددة لأصحابها، بمعنى احتوائها على موقف من الصراع أو الأزمة وقضاياهما الفرعية، وهي بهذا تعبر عن موقف محدد في زمن محدد من تطور الصراع أو الأزمة يعكس مصالح واهتمامات من يتبنونه.
أما السمة الرابعة للاستراتيجية فهي أنها يجب أن تتميز بوضوح وتفصيل في طرح قضايا الصراع أو الأزمة، فعدم الوضوح والعمومية المفرطة يكون لهما تأثير سلبي بالغ على المواقف والسياسات المستندة عليها.
هذه هي الاستراتيجية في أقرب معانيها للدقة التي استقرت عليها ممارستها وعلومها في مختلف دول العالم خلال عشرات من السنين. وهذه هي الاستراتيجية كما يجب أن نطبقها في بلادنا العربية في سياساتنا الداخلية والخارجية، وغير هذا يمكن أن نطلق عليه أي اسم نريد بعيداً عن هذا المفهوم المركزي في الإدارة السليمة للدول والمجتمعات وصنع تقدمها.