حكم الولايات المتحدة الأميركية، خلال العقود الأخيرة عدد لا بأس به من رؤساء أتوا دائماً من الحزبين الرئيسيين في البلاد، وانتُخبوا بانتظام في أغلب الأحيان عبر عملية ديمقراطية، حيث لم تتعلق الاستثناءات إلا بحالتين: ليندون جونسون الذي خلف الرئيس كنيدي بصفته نائبه إثر اغتيال هذا الأخير، وجيرالد فورد الذي خلف ريتشارد نيكسون إثر استقالته تحت وطأة فضيحة ووترغيت. ونعرف أن هذين النائبين اللذين تحولا رئيسين، سرعان ما انتخبا ديمقراطياً ما أعطاهما شرعية شعبية لاحقة.

نعرف أن البيت الأبيض منذ زمن بعيد يحاول على الدوام، ومهما كان من شأن الهوية السياسية لشاغله، أن يقيم علاقات طيبة، إن لم يكن مع المثقفين الأميركيين جميعاً، فعلى الأقل مع أنماط تناسبه من المثقفين محاولاً في بعض المناسبات أن يقوم بإطلالات على الأنماط الأخرى، وصحيح، تاريخياً، أن الرؤساء الديمقراطيين يبدون بشكل إجمالي، أكثر قدرة على التعاطي مع الغالبية العظمى من كبار المثقفين الأميركيين، وذلك تحديداً على خطى الرئيس روزفلت الذي سبقهم حين مارس سياسته الاقتصادية المسماة «نيو ديل» والتي أنقذت بلاده من الكساد والجوع في سنوات الثلاثين، فالتف حوله المبدعون يناصرونه ويكتبون عنه ويحققون أفلامهم في استيحاء من سياساته وأفكاره.

جون كنيدي، بكاريزماه وثقافته، اكتسب المبدعون بدوره حتى في أوساط تعاديه سياسياً، وكذلك سوف يفعل بيل كلينتون ثم لاحقاً باراك أوباما حتى وإن خيّب كثيراً من الآمال في مجال سياساته الخارجية، ومهما يكن، عرف كنيدي وكلينتون وأوباما كيف يكسبون رضا المبدعين. وكيف يحولون علاقتهم بهم إلى نوع من العلاقة مع ما سماه كلينتون يوماً «ضمير الأمة الأميركية».

لكن الرؤساء الديمقراطيين لم يكونوا الوحيدين الذين اكتسبوا تأييد المثقفين، فالرؤساء الجمهوريون فعلوا ذلك أيضاً، ولكن مع فارق أساسي: هؤلاء اجتذبوا تلك الكتلة المثقفة التي تعتبر عادة يمينية، ونادراً ما تمكنوا من اجتذاب الكتلة المثقفة الأكبر المنحازة بالأحرى إلى اليسار والتطلعات الليبرالية والديمقراطية سواء أكان ذلك في الجامعات أم هوليوود أم نيويورك.... الخ. ونتذكر على أية حال الحظوة التي كانت لرونالد ريغان خاصة في هوليوود التي أتى منها أصلاً وأملت في مجيئه خيراً، قبل أن تنفّرها سياساته.

يعني هذا وإن بشكل خطّي، أن كل واحد من ساكني البيت الأبيض في الحقبة التي نشير إليها هنا، كان له حصته من الحياة الثقافية الأميركية. وهذه الحصة كانت تتقلص أو تتضخم تبعاً للظروف والسياسات، لكنها أبداً ما كانت تصل إلى حد العدم. فهل حان الوقت اليوم كي يحدث انقلاب هائل في الصورة؟

لقد لاحظنا خلال المعركة الانتخابية التي تواصلت قرابة العام قبل أن تُختتم بفوز المرشح – الرئيس الآن – دونالد ترامب، أن الغالبية الساحقة من القوى الفاعلة في الحياة الإبداعية الأميركية لم تتوان عن مناصبة المرشح الجمهوري – اليميني، العداء.

وحتى حين كان المثقفون الأميركيون لا يتورعون عن إعلان معارضتهم لسياسات المرشحة كلينتون، ويعلنون أنهم لن يصوتوا لها، كانوا يؤكدون في السياق نفسه أن هذا لا يعني تأييدهم ترامب... قال كثر منهم أنهم لئن كانوا يعارضون سياسات المرشحة الديمقراطية، فإنهم في المقابل يقفون موقف النقيض من كل ما يمثله خصمها ترامب، سياسياً واجتماعياً وذكورياً وفلسفة حكم واقتصادياً.

تسلم الرئيس الجديد منصبه، وها هم المثقفون الأميركيون عن بكرة أبيهم يقررون إعلان غضبهم من وجوده على رأس أمة لطالما حلموا، كما يقول واحد منهم، بأن تكون «على العكس تماماً مما يبشرها به هذا الملياردير الذي لا يعرف سوى لغة الأرقام»....

ولعل آخر مظاهر هذا الاعتراض الفصيح الذي يجابه به «ضمير الأمة الأميركية»، على طريقته الخاصة، ما أعلنه مصممو الأزياء من أنهم لن يتعاونوا مع «السيدة الأولى» رغم أنها تنتمي أصلاً إلى عالمهم، وهم بهذا ينضمون إلى السينمائيين – كان فصيحاً وقاسياً ما قالته ميريل ستريب في حفلة «الغولدن غلوب»، وأفصح منه وأمرّ التصفيق التي قوبل به كلامها – والجامعيين – الذين يسهمون إسهاماً كبيراً في «اعتراضات اليوم»، وغيرهم.

صحيح أنه سيكون في وسع السيدة ترامب أن تصمم أزياءها في الخارج، في روسيا بوتين مثلاً، وصحيح أن الرئيس ترامب سيجد مثقفين يقفون إلى جانبه في نهاية المطاف، وصحيح أنه قد يبدي نوعاً من اللامبالاة بكل هذا، ولكن صحيح أيضاً أن ما من رئيس أو ملك أو مسؤول يمكنه أن يحكم بشكل جيّد إن هو حوصر بضمير أمته يعلن معارضته له في إبداعاته وأفلامه وكتاباته وأغانيه وجامعاته، وفي اعتقادنا أن هذا سيكون واحداً من أكبر التحديات في وجه هذا السيد الذي يطل على العالم بوصفه الشاغل الجديد للبيت الأبيض.