حين اجتمع نجيب محفوظ (كاتباً) ويوسف شاهين (مخرجاً) في عمل سينمائي واحد ذي دلالة وقوة خلال واحدة من السنوات الغاضبة التي تلت هزيمة الخامس من يوليو 1967، كان المثقف ضحية اجتماعهما.

حدث ذلك في فيلم «الاختيار» الذي قدّم شخصية المثقف في عز انفصامها وإجرامها.... صحيح يومها أن المثقف المعني كان، بحسب أقلام كثيرة، مثقفا معينا ورمزا للسلطة الحاكمة في ذلك الحين ـ يوسف السباعي -، لكن الفكرة التي وصلت إلى المتفرجين أشارت إلى المثقف بشكل عام.

في الأحوال كافة بدت صورة المثقف لدى الاثنين، مع أنهما من شيوخ المثقفين المبدعين المصريين والعرب، غير مطمْئنة.

ومن البديهي القول إنها كانت تعكس نظرة الناس بشكل عام إلى المثقف العربي... فإذا أضفنا إلى هذا تعامل السلطات في تلك الأزمنة مع المثقف بكونه إما مصفقا لكل ما تفعله وبالتالي يحاط بالتكريم ، وإما مناوئا وبالتالي يحاط بالأسوار والقيود... سندرك أن لهذا كله تاريخاً قد يستحق أن يُكتب يوماً.

ولكن هل كان المثقف العربي، الحقيقي، بهذا السوء أو بتلك السلبية حقا؟

سؤال تفرض طرحه علينا مناسبتان، نجدهما من منظور ما مترابطتين: قرب استعادتنا، بعد شهور قليلة، لذكرى هزيمة الخامس من يوليو التي قصفت الظهر العربي ولا نزال ندفع ثمنها حتى اليوم، وربما سندفعه لأزمان طويلة مقبلة، من ناحية، والرحيل المفجع من ناحية أخرى، لواحد من كبار المثقفين العرب، صادق جلال العظم، قبل أسابيع قليلة.

فإذا كانت تلك الهزيمة، المناسبة الأساسية التي حركت مبدأ إدانة المثقف العربي باعتباره مسؤولاً عما حدث ـ وصولاً إلى اتهام كثر من الحمقى، كوكب الشرق أم كلثوم بأنها من صانعي الهزيمة!، فإن الراحل العظم كان عنوانا للصوت الحاسم والصارخ الذي انتفض بعد الهزيمة ليدق نواقيس الخطر ويحدد في كتابين كبيرين له، على الأقل، أصحاب المسؤولية الكبرى عما حدث.

والكتابان هما بالطبع «النقد الذاتي بعد الهزيمة» و«نقد الفكر الديني»، (وبالمناسبة ثمة خطأ مقصود شائع اتهم هذا الكتاب الأخير بكونه مناوئاً للدين مع أن قراءة ولو بسيطة له تكشف كم أنه إنما وقف ضد التلاعب بالدين وقيمه، ضد التطرف والدجل باسم الدين، وهي الأمور التي ها نحن نعاني منها اليوم وتسيء إلى الدين أول ما تسيء).

ونعرف أن العظم لم يكن وحده في التصدي للهزيمة والتأشير بكل وضوح على المتسببين فيها. فمن مواطنه سعد الله ونوس، إلى كثر من كبار المبدعين والمثقفين المصريين ـ محمود دياب، ألفريد فرج، محمود أمين العالم، نوال السعداوي...الخ ، و... يمكن للائحة أن تطول إلى ما لا نهاية، كان المثقفون العرب الصوت المدوي في التصدي. ونعرف أن كثرا منهم دفعوا الثمن غالياً.

ولعل أفدح الأثمان كان منعهم من الوصول إلى أصحاب المصلحة الحقيقية في تلقي أعمالهم، الناس، البشر، الذين سرعان ما أُغرقوا في مختلف أنواع الدجل التلفزيوني والفني والصحافي، التي سرعان ما تحولت إرهابا وعنفا وتغييبا للناس عن العالم والعصر، وكل هذا مع توابل تمعن في اتهام المثقف بـ«المسؤولية».

وبعد ذلك حين اشتدت سخونة المعركة ضد التطرف والأصوليات المسلحّة، لجأت السلطات إلى النتاجات الفكرية للمثقفين أنفسهم، سواء كانوا من أبناء الحاضر أو الماضي، تنشرها على نطاق واسع وتوزعها بشكل شبه مجاني على الناس.

ونذكر هذا ونفكر بإعادة السلطات المصرية، في الثمانينات والتسعينات، طباعة عشرات النصوص والكتب الممنوعة و«المشاكسة» على الأصوليات الظلامية والمسلحة حين اشتدت المعركة في مصر في ذلك الحين، أو بالسلطات الجزائرية الثقافية حين أغدقت تمويلاتها على السينمائيين وغيرهم من المبدعين مستعينة بإنتاجاتهم لمحاربة أعدائها الجدد خلال ما سمّي بسنوات الرصاص وما بعدها.

كل هذا، حتى من دون تصحيح الصورة، ومن دون أن يعاد للمثقف اعتباره وبالتحديد عبر التأكيد على أنه ربما كان الوحيد الذي نبّه للأخطار وحدّد المسؤوليات، لكنه بقي مظلوما سيئ السمعة والصورة، حتى بأقلام وكاميرات المثقفين أنفسهم.