في نصّ جميل وعميق كتبه الفيلسوف والروائي الإيطالي، الراحل أومبرتو إيكو بعنوان «تكوين العدو»، يروي كيف مرة، وكان يزور نيويورك، سأله سائق الأجرة من أي بلد هو، فلما قال له إنه إيطالي، استطرد السائق ليسأله عمن هي الأمم التي تعادي بلاده. والسائق لم يصدق أذنيه حين قال له إيكو إن إيطاليا تعيش من دون أعداء منذ نحو ثلاثة أرباع القرن.. وبالتحديد بعد تلك الحرب (العالمية الثانية) التي بدأتها مع عدو لتختمها مع آخر.

بعد ذلك، فكر إيكو، كما يتابع، ليتنبه إلى أن الأعداء هم اليوم في الداخل: الشمال ضد الجنوب، الفقراء ضد الأغنياء، اليمين ضد اليسار.. إلخ. فما من أحد يمكنه أن يعيش من دون عدو، بما في ذلك الأمم التي لا أعداء خارجيين لها.

في مقالته استطرد إيكو قائلاً إننا نحن الذين نصنع أعداءنا في نهاية الأمر. لو لم نجدهم لاخترعناهم، كما يقول نزار قباني في مجال آخر.

هذه الفكرة تخطر لا شك على البال اليوم في الوقت الذي تنقل فيه شاشات العالم الحدث المدوّي الأكبر مع بدايات هذا العام: القرارات المتلاحقة التي يتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مستفزاً العالم كله في مواجهته، وليس فقط الخصوم والأعداء التقليديين لأميركا، بل من اللافت أن هؤلاء يبدون الأقل مبالاة بما يفعل والأقل خصومة له فيه.

بامتياز يكوّن ترامب اليوم عالماً معادياً لبلاده، يخترع لها أعداء جدداً ما كان يمكنهم أن يكونوا أعداءها في أية ظروف أخرى. بيد أن الأهم من هذا كله هو صورته المنقولة على شاشات التلفزة، وهو جالس كطفل جاءه أهله بقطار كهربائي يحلم به منذ زمن بعيد، وها هو يلعب به الآن وعلى سحنته ملامح من يريد أن يغيظ ابن الجيران ويغري ابنتهم. وما الحجم الضخم الذي يوقع اسمه به أمام الكاميرات سوى مادة يجدر بالمحللين النفسيين دراستها بشكل جدي ليقولوا للأميركيين بعض الكلام عن الرئيس الذي انتخبوه.

ومع هذا كله، قد يكون من الإنصاف في حق الرجل أن نقول كيف تمكّن من هزّ التاريخ من جذوره في أيام، مخرجاً إياه من ركوده وبلادته. فها هم الأميركيون ينتفضون في وجهه جهاراً نهاراً. وها هم الأوروبيون يتذكرون ويذكرون بالقيم الإنسانية التي يضرب بها ساكن البيت الأبيض عرض الحائط. وها هو العالم الحر، الحر حقاً، يكاد يجتمع لإيقافه عند حده، وها هم المبدعون الأميركيون يكادون يصرخون بصوت واحد: هذا الرجل لا يمثلنا!!

ترى أوليس في إمكاننا أن نستخلص من هذا أن ترامب يصنع التاريخ أكثر كثيراً مما صنعه الرئيس السابق، الذي كان أكثر ما يخشاه، على ما يبدو، هو صنع التاريخ؟

وهنا قد يكون من الملائم، إذ بدأنا حديثنا في السطور السابقة بالإشارة إلى كلام أومبرتو إيكو، أن نختم الكلام بالإحالة الى فيلسوف وكاتب آخر، لم يكن إيكو بعيداً عنه في تفكيره على أية حال. فلكارل ماركس دراسة لم يتم تداولها كثيراً كتبها ذات يوم ربيعي فيما كان يستريح من عناء انكبابه على تدبيج «رأس المال»، عنونها «دور المجرم في صناعة التاريخ»، ويقول فيها إن المجرم، وبالتالي الشرّير، هو الصانع الحقيقي للتاريخ. فمن دونه لن تكون ثمة حاجة إلى الأبواب والأقفال والمفاتيح ولا إلى الأصفاد ولا إلى رجال الشرطة ولا إلى المحاكم ولا إلى كتاب العدل ولا إلى الموثقين. ومن دونه لن يكون هناك لا أدب ولا شعر ولا مسرح. لن تكون هناك حاجة إلى مسرحيات شكسبير وغوته ولا إلى ثلاثة أرباع لوحات الفن التشكيلي.. ويمكن لهذه اللائحة أن تطول.

فبالنسبة إلى كارل ماركس، ولسنا نجد طريقة للاعتراض هنا على ما يقول، من الواضح أن المجرم لا يصنع التاريخ فقط، بل الصناعة والتجارة. ومن دونه لأضحى جزء كبير من الناس بلا عمل، ولأضحى المفكرون والسياسيون من دون عمل، والقضاة متقاعدين، وكذلك فنانو المسرح وعمال المطابع..

صحيح أن ماركس كان، في نصه هذا، يتحدث عن المجرم، والرئيس الأميركي الجديد لا يمكن وصفه منذ الآن بالمجرم، فهو لم يقترف أي شيء مما سبقه إليه محازبون ورؤساء سابقون، سواء حملوا اسم بوش أو ريغان أو حتى نيكسون.. ولكن هناك دائماً رحلة الألف ميل التي تبدأ بخطوة واحدة. وهناك أيضاً ما نعرفه من أن هتلر أو نتانياهو أو أبا بكر البغدادي أو مقاتلي الحشد الشعبي أو جلادي الشعب السوري، كانوا جميعاً عند البداية أطفالاً يريدون إغاظة ابن الجيران ومغازلة ابنتهم.