إن لم يكن من الخطأ الحكم بأن الباحث صامويل هانتنغتون بكتابه «صراع الحضارات»، كان هو الفائز في المجابهة الفكرية التي قامت بينه وبين زميله فرانسيس فوكوياما، صاحب كتاب «نهاية التاريخ»، منذ رصد الاثنين قبل أكثر من ربع قرن، التغيّرات الحاصلة على مستوى العالم، وعبّر كل منهما عن نظرته إليها غداة السقوط المدوّي للثنائية الاستقطابية في العالم، بزوال المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفييتي. وهذه مسألة تطرقنا إليها على هذه الصفحة قبل أسابيع، كما تطرق إليها غيرنا.

المسألة التي نشير إليها هنا بالتحديد، تتعلق في الحقيقة بعبارة «صراع الحضارات» نفسها. فمن البديهي أن هذه العبارة المؤلفة من كلمتين، هما في الإعراب مضاف ومضاف إليه، تفترض أول ما تفترض، وجود حضارات تتصارع في ما بينها.

والحقيقة أن هانتنغتون، في كتابه المشار إليه، لم يفته هذا الأمر، بل أشار إليه تماماً، محدداً حتى أسماء تلك الحضارات التي افترض وجود واستمرارية صراعات بينها، ومنها الحضارة الغربية المسيحية – اليهودية والصينية والشرق أوسطية العربية/‏‏‏ الإسلامية... وغير ذلك.

ونحن في ما يهمنا ويخصّنا هنا، سنجدنا مهتمين أكثر ما نهتم بتلك «الصراعات» التي قد تكون الحضارة الإسلامية/‏‏‏ العربية طرفاً فيها.

وبالتحديد بالنظر إلى أن ثمة في الأحداث الشرق أوسطية الراهنة، وصولاً إلى ظهور التطرف الإسلامي، القاعدة وداعش والحشد الشعبي وحزب الله، وصولاً إلى الحوثيين ومن شاكلهم، عناصر صراع يشكل الغرب على نحو أو آخر، أو حتى المناطق المسيحية بشرقيّها وغربيّها، الطرف الآخر فيه. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو التالي: هل صحيح أن ثمة في الأمر هنا صراع حضارات؟، بكلمات أخرى: هل صحيح أن ثمة مجابهة قاسية دامية بين حضارتين، إحداهما شرقية إسلامية، والثانية غربية مسيحية، ما يستقيم مع جوهر تحليلات هانتنغتون؟.

في ظاهر الأمور، قد يبدو هذا منطقياً. ولكن في ظاهر الأمور فقط.

وذلك تحديداً، لأن فرضية وجود مجابهة بين «حضارتنا» و«حضارتهم»، تستدعي على الفور صورة تقول إن طرف المجابهة، هم الورثة الشرعيون لذلك التراث الحضاري الممتد من مفكري المعتزلة إلى الفلاسفة والمبدعين والمفكرين والعلماء والشعراء وبناة المعالم والقصور، وغيرهم من المنتمين إلى الحضارة العربية/‏‏‏ الإسلامية في المشرق والمغرب، ومن بيت الحكمة البغدادي إلى قصر الحمراء الأندلسي، ومن نقل أرسطو إلى الغرب من طريق ابن رشد ورفاقه، وتدبيج الليالي العربية وإبداع المقدمة الخلدونية، و«شفاء» ابن سينا وسياسة الفارابي و«كليات» ابن رشد.. ويمكن هنا لمثل هذه اللائحة ألا تنتهي، حتى ولو اكتفينا منها بما كتبه واشتغل عليه المستشرقون وحدهم...

فهؤلاء، وألوف الأسماء التي يمكن أن تضمها اللائحة، مروراً بأحكام الماوردي ورسائل إخوان الصفا وفتاوى محمد عبده وإنجازات توفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وطه حسين ونجيب محفوظ.. و.. مرة أخرى، قد لا يكون ممكنا لمثل هذه اللوائح أن تنتهي، هؤلاء هم الحضارة العربية/‏‏‏ الإسلامية، حتى وإن كنا نعرف أن للميدالية جانباً آخر، كما الحال في كل مكان وزمان.

فهل يريد كتاب «صراع الحضارات»، أن يقول إن ورثة كل هذا الفكر والإبداع، هم اليوم في حرب وجود مع ورثة الفكر اليوناني والنهضة الأوروبية وعصر الأنوار وأفكار الثورة الفرنسية وعقلانية القرون الأخيرة وإنسانية الفكر الأوروبي ومنجزات الحلم الأميركي، يوم كان يعيش ذرى تألقه؟.

في اعتقادنا أن الصورة التي ينمّ عنها كتاب هانتنغتون، لا يمكنها أن تكون صورة دقيقة. وذلك بالتحديد، لأن تمعّنا في معظم الأهداف التي يطاردها الدواعش وبقية عائلات التطرف الذي ينسب نفسه إلى نوع غير سويّ من الإسلام، هي أهداف حضارية: الآثار والمتاحف والمسارح والملاعب الرياضية، وصولاً إلى الكاتدرائيات التي تدل على عظمة العمران البشري، بقدر ما تدل على جوهر النقاء الروحي للدين...

ومن يدقق أكثر، سيكتشف أن داعش، على سبيل المثال، لم يخض أي صراع مع من كان في إمكانه أن يعتبرهم «أعداء» سياسيين للحضارة العربية/‏‏‏ الإسلامية. فأين إسرائيل في صراعاته؟ ومن قبلها أين إسرائيل من صراعات القاعدة؟ وأين إيران من هجماته؟.

من الواضح أن هذه الأسئلة كفيلة بأن تجعلنا نقلب العبارة، لنقول إن ما نشهده ليس صراعاً بين الحضارات، بل هو صراع ضد الحضارة. صراع الهمجية، إلى أي فريق انتمت، ضد كل تمدّن ونزعة إنسانية. وليعذرنا السيد هانتنغتون!