عداء وجوديّ... تناحر مؤقت... تاريخ حافل... حذر لا بدّ منه. تلكم بعض من المشاعر، التي تحكم العلاقات بين العرب وجوارهم، ولا سيما بين العرب والجوار الأقرب والأكثر تعقيداً من الناحية التاريخية، المتمثل في الثلاثي تركيا إيران والاحتلال الإسرائيلي.
فلئن كان الحاضر لا يشهد اليوم على توترات سياسية أو وجودية أو دينية بين العالم العربي وتركيا، فإن ذكريات الماضي بينهما لا تزال مشبعة بالضباب- الذي يمكن القول على أية حال إن العلاقات المتجددة بين أنقرة وبعض العواصم العربية تعمل على تبديده، ولا سيما إذ يلقي بظله «الإيديولوجي» السميك بين أنقرة والقاهرة على الأقل.
من المؤكد أن الصراع مع إسرائيل لا يمكنه إلا أن يكون وجودياً، ليس طبعاً بسبب الحروب، التي وقعت وتقع بين الحين والآخر بين بعض العرب وبينها، بل أكثر من هذا، بسبب قيام الدولة العبرية نفسها على أنقاض فلسطين، التي تتقلص أرضها بالتدريج عاماً بعد عام.
أما بالنسبة إلى إيران فثمة إلى جانب الحروب الموضعية، التي يخوضها العرب مع وكلائها ومرتزقتها في أنحاء عديدة من العالم العربي، ذلك الطمع الإيراني الدائم بأراض عربية يتمثل من ناحية في الاحتلال المباشر للجزر الإماراتية، ومن ناحية ثانية في ما يعلنه مسؤولون إيرانيون بين الحين والآخر من أن «إيران تسيطر على ما لا يقلّ عن أربع أو خمس عواصم عربية». في اختصار إذا، هناك دائما حال من التوتر مع الجوار.
لكن الأسوأ من هذا أن هناك أيضاً وبخاصة، حال من الجهل العربي بهذا الجوار، ومن البديهي أن هذا الجهل يضعنا في عمى شبه كامل إزاء ما يحدث هناك، وبالتالي يمكن القول إن الصور النمطية والكليشيهات الأيديولوجية والأفكار المسبقة تحكم علاقتنا ليس فقط بالأنظمة المحيطة بنا، بل كذلك بالشعوب والفئات التي تعيش غير بعيد عنا.
فإذا سلّمنا بأن الجهل يشتغل كونه سلاحاً ضد الجاهل وليس ضد المجهول، يمكننا أن نتساءل عن السبب الذي يجعلنا مصرّين على تجاهل سلاح المعرفة هذا، معتبرين كل محاولة لاختراق الحواجز في هذا المجال أمراً مرفوضاً، ولا سيما هنا في مجال معرفتنا بالعدو الإسرائيلي.
والحقيقة أن هذا يجعلنا كالأعمى يحاول أن يصارع عدواً لا يراه، فيتلقى ضرباته دون أن يتمكن من ردّها. ولئن كانت المسألة مع الأتراك باتت تبدو أقل حدة على الأقل منذ اكتُشفت المسلسلات التلفزيونية، فقربت العرب منهم وقربتهم من العرب خاصة، بعد أن صارت المناطق التركية مقصداً سياحياً وتجارياً للعرب، فإن الوضع مع إيران يبدو أكثر غموضاً ومع الإسرائيليين كارثياً،
بل حتى مع الأتراك يمكننا أن نتساءل: هل حقاً سنعرف أشياء كثيرة عن الأتراك- ولا أتحدث هنا عن تركيا بل عن الأتراك تحديداً- من خلال مسلسلاتهم؟ الحقيقة أن القليلين من بيننا الذين يعرفون الأتراك حقاً ينصحون بأن يكون الرد: لا... من طريق المسلسلات لن نعرف عن تركيا أكثر مما سيعرفه السائح العربي إن هو تجول في إسطنبول أو أنقرة أو أزمير: ستكون الصورة خارجية، سياحية تعرّفه ربما بـ«تركيا» وليس بالأتراك.
مع هذا ثمة إبداعات مدهشة تبدأ بروايات أورهان باموك وإلف شفق وحتى يشار كمال، ولا تنتهي بأفلام رائعة تعرض اليوم في شتى أنحاء العالم وتُقدّر دون أن تجد طريقاً إلى المواطن العربي، وكلها أعمال من المؤكد أن هذا المواطن سيعرف من خلال هذه الأعمال ومئات غيرها كل ما يتوجب عليه معرفته عن الأتراك، أهل الجوار المباشر.
لعل شيئاً مثل هذا يمكن قوله عن الإيرانيين، الذين تغيب إبداعات فنانيهم وكتابهم عنا تماماً.
وحتى إن سمعنا بها سنسمع إما عن أعمال سخيفة تصنع لخدمة النظام، وإما عن أخرى نخبوية معارضة ليس فيها ما يمكن أن يفيدنا في السياق، الذي نتطلع إليه، ومع هذا ثمة متن ضخم من الإبداع يبدأ بأفلام أصغر فرهادي ولا ينتهي بعشرات الكتب والروايات أو النصوص الرائعة من أمثال «قراءة لوليتا في طهران»، التي غزت العالم ومتفرجيه وقراءه لتقول له عن الإيرانيين أضعاف أضعاف ما تقوله الخطابات والتقارير السياسية، فهل نضيف أن هذه تخيف السياسيين أكثر من إبداعات المعرضين المعلنين؟
أما بالنسبة إلى إسرائيل فقد يكون من الأجدى مثلاً لمعرفة «هؤلاء» الذين جُعلوا في جوارنا بغفلة عن التاريخ، ليس أن نقرأ مئات الكتب التي ترجمت وأُلّفت غارقة في الأيديولوجيا والأحكام المسبقة بدورها وتركتنا بعد قراءتها طوال عقود وعقود جاهلين كل شيء عنهم أكثر وأكثر.
بل أن نتفرس في نحو دزينة وأكثر من روايات لعاموس أوز أو دافيد غروسمان أو أفراهام يهوشفاع، أو نشاهد عشرات الأفلام التي بات العالم ينظر إليها بوصفها «خنجرا ًفي خاصرة الدولة الصهيونية يطعنها من الداخل» فنعرف عن هذا العدو الوجودي كل ما يجب أن نعرف، وكل ما لم نتعلمه، من ملايين الصفحات العربية التي للأسف ضاعت هباء !