اتضح لي أثناء مشاهدة نقاش الحزب الاشتراكي الفرنسي ، كيف أصبح اليسار الأيديولوجي في فرنسا قديماً؟
بينما ناقش المرشحون الأيديولوجيا التي كانت في يوم من الأيام تمثل مثالية الشباب، باتت فجأة نداءً من كوكب آخر، يوجه جمهوراً غير موجود.
تشير استطلاعات الرأي أن أول دورة من أصل دورتين للانتخابات الرئاسية الفرنسية لو عقدت اليوم لكانت «مارين لوبان» من الجبهة الوطنية و«فرانسوا فيون» من الحزب الجمهوري الفرنسي سيتقدمون في الجولة الثانية من التصويت ولكانوا قضوا على الاشتراكيين تماماً.
وقد يستنتج من هم خارج فرنسا ممن ليست لهم دراية بالسياسات الفرنسية بأن فرنسا أصبحت على دراية بتعقيدات الأيديولوجيا اليسارية. وهناك شيء آخر يحدث هنا يعكس تغيير الأولويات والقيم. وعرف أن السياسيين من ذوي التوجه اليساري هم الذين كانوا يعتمدون على الشباب الصغار من خلال إرضاء مثاليتهم الحالمة، ومنذ ذلك الحين اعتمد السياسيون الليبراليين الفرنسيين على رأس المال ذاك.
استطلاع «ايفوب» العام الماضي عن الشبان الفرنسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-25 عاماً أظهر أن «لوبان» مرشحتهم الرئاسية المفضلة، بينما لاحظ أن تفكيرهم تجاه المجتمع الفرنسي يمكن أن يوصف بـ «الفزع» مع نحو 68% يصفون الأسرة بأنها تعاني من الأزمة المالية.
فضلاً عن 72% يصنفون السياسيين بالضعفاء. وبحسب استطلاع «أودوكسا- دنتسو» للاستشارات من ديسمبر الماضي فإن الشبان في فرنسا الذين تتراوح أعمارهم بين 18-34 عاماً يشعرون بالاشمئزاز من الأحزاب السياسية، ولكن عندما يضغطون لتحديد طرف ما يصبح بإمكانهم اختيار الجبهة الوطنية على بدائل المؤسسات الجمهورية والاشتراكية.
الاستياء من العولمة، أو على أقل تقدير بسبب نتائجها، أفضى إلى إزاحة النماذج الفكرية وأذن ببدء حقبة جديدة لما بعد الأيديولوجيا الجديدة، والمناقشات السياسية والتمارين الفكرية لا طائل لها، عندما يتم تنظيمها على خلفية النظام الذي يعج بالمحسوبية والمصالح الخاصة.
لإجراء إصلاح جديد فإن ذلك يتطلب انتخاب شخص ما، لم تكن له يد في إيجاد النظام الحالي، ولقد شهدنا ارتقاء نايجل فراج، الذي قاد حركة «بريكست» البريطانية ودونالد ترامب، الذي تولى المؤسسة الأميركية الرسمية، ولكن في أماكن أخرى فإن الأجانب باتوا قادرين على متابعة الوعود لتفكيك سياسة الوضع الراهن وما إلى ذلك.
ووعدت «لوبان» بإجراء استفتاء وطني على خروج الفرنسيين من الاتحاد الأوروبي في حال فازت بالرئاسة، وأشارت إلى أنها ستستقيل في حال فشل التصويت.
إلزام «لوبان» يناشد بإجراء نوع من التمرد الشاب المناهض للمؤسسة، والذي يظهر أن الديمقراطية قد قرصنت، وهو الرأي المفضل من قبل اليسار السياسي.
الجبهة الوطنية تتجاوز الأيديولوجيا، وهي سمة مريحة في المناخ الحالي، مغايرة للتوصيف الشعبي، وهذه ليست حزباً يمينياً متطرفاً، وإنما الحزب الديغولي، الذي يدمج بين المحافظة والوطنية والدولانية، الموصوفة من قبل فترة الحرب العالمية الثانية على لسان الرئيس الفرنسي شارل ديغول.
وقد يفضل المحافظون رؤية عدد أقل من الحكومات التي تتدخل في الأمور الشخصية، بينما يفضل اليساريون أن يحدوا من الجوانب المحافظة في برنامج الحزب، إلا أن الأيديولوجيا تخسر كثيراً من سماتها عندما تدخل في نظام مكسور.
لهذا السبب تأتي الشعبوية الوطنية، وهذه هي مركبة الجبهة الوطنية التي دعمها اليسار السياسي تاريخياً، والتي تضع الحزب بعيداً عن المؤسسات المنافسة.
المعركة اليسارية القديمة بشأن «السلطة للشعب» وضعت في محل آخر بسبب الرغبة الكبيرة جداً لاستعادة السيادة الوطنية في عصر العولمة المتفشية ولوقف تآكل الحدود الوطنية من خلال يد خفية للحكم العالمي الغامض.
هؤلاء الذين دعموا فكرة سياسات العولمة التي أغنت صفوفهم هم الآن أهداف رئيسية للحد من القضاء السياسي وليس من خلال اليسار فقط. وفي حين أنهم يعظون بقيم الوطنية الفرنسية المعنية بالحرية والمساواة والأخوة، فإن أفعالهم تدعم إجراءات الطبقات الاجتماعية والسياسية الخاصة، التي تظهر اعتقادهم المضلل من أن بعض المواطنين يستحقون مزيداً من الحرية والمساواة والإخاء مقارنة مع غيرها من الدول.
«لوبان» هي المرشح الرئاسي الوحيد القابل لتولي الرئاسة في فرنسا، والتي لا تعتبر مسؤولة عن المؤسسة، وقد خدم الآخرون كوزراء رئيسيون في الوزارة وفشلوا في استخدام مراكزهم لإصلاح النظام، وعندما تم انتخابهم، تمكنوا من الاندماج في آلة عملاقة لإنتاج الديمقراطية، وحتى تنتهي هذه الأمور فإن هناك أملاً صغيراً بتحسن دائم في محنة المواطن الفرنسي الدائمة.