في حياته كان الكاتب اللبناني جبران خليل جبران مغضوباً عليه من الكنيسة، بسبب كتاباته المشاكسة، كما كان مغضوباً عليه من غلاة دعاة النزعة اللبنانية، الذين كان أشد ما يغيظهم إعلانه الدائم بأنه سوري وعربي.

ثم حين اشتد الضغط عليه أعلن غاضباً: «لكم لبنانكم ولي لبناني». كان هذا قبل قرن ونيف. جبران خليل جبران يعتبر اليوم أيقونة لبنانية وابناً باراً للكنيسة، بل حتى مَعْلماً سياحياً قد يُرجم من يحاول الدنو منه بكلمة سوء.

في هذه الحال جبران ليس وحيداً. حسبنا أن نراجع تاريخنا الثقافي العربي حتى تطالعنا عشرات الأسماء لمفكرين ومبدعين كان مغضوباً عليهم في حياتهم وأُحرقوا أو على الأقل أُحرقت أعمالهم من قبل سلطات سياسية أو دينية لم يفت المجتمع أن يصفق لها مؤيداً، وتعتبر هي نفسها متحركة باسم هذا المجتمع ومصالحه. ولكن مع مضيّ الأيام، وحتى من دون أن يبدل المعنيون من مواقفهم، بات أولئك الملعونون يعتبرون فخر الأمة ونبراسها.

لن ندخل هنا في الأسماء ولا في تحديد الحقب التاريخية، لكننا سنتساءل فقط عما إذا كانت تلك الانقلابات في الموقف تعتبر تدجيناً للمبدعين والمفكرين أم أنها انتصار لهم؟

هو سؤال شائك طرحه قبل ثلث قرن تقريباً المفكر الألماني/‏ الأميركي هربرت ماركوزه في كتاب له عنوانه «نحو التحرر» بدا فيه ناعياً للحركات الطلابية وحركات الأقليات، التي قامت بانتفاضات العام 1968 في شتى أنحاء العالم، بعدما كان سبق له قبل ذلك أن نعى «ثورات الطبقة العاملة» في كتابه الأشهر «الإنسان ذو البعد الواحد»، ففي «نحو التحرر» يتوقف ماركوزه مبدياً نوعاً من الأسى والسخط على الفنون الحديثة.

ناعياً إياها وناعياً قدرتها على أن تفعل أو تشاكس، بعد أن صارت، بحسب تعبيره، لوحات تعلق على جدران المصانع المملوكة للرأسماليين، وتُشترى بملايين الدولارات لتعلق في مكاتبهم الفخمة، ومسرحيات تعرُض في أفخم الصالات، ومقابل رسوم دخول لا قبل للطبقات الشعبية بشرائها، وكتباً لم يعد للبائسين من الوقت في صلب صعوبات العيش ما يمكنهم من قراءتها.

يفيدنا ماركوزه هنا، وهو المفكر الذي كان قبل ذلك واحداً من كبار المنظرين لثورات الطلاب والملونين والكادحين غير المنتظمين في النقابات والأحزاب الشيوعية ولا حتى الاشتراكية، يفيدنا بأن للرأسمال قدرة فائقة على تدجين الإبداع والمبدعين، بحيث تتضاءل أهميتهم في كل حراك سياسي أو حتى مطلبي، ما يعني بالنسبة إليه نهاية الفنون والآداب وكل أشكال الإبداع كونها جزءاً من حركات التغيير.

في الحقيقة أن المرء لو تمعن في كلام هذا المفكر- الذي لم يكن وحده في مثل هذا التفكير في ذلك الحين على أية حال - سيجده منطقياً، لكن الحقيقة في اعتقادنا، لا تتطابق كلياً مع هذا القول، انطلاقاً من مبدأ بسيط فحواه سؤال أكثر بساطة: هل أُبدعت الفنون أصلاً لكي تحقق مطالب اجتماعية أو قومية أو طبقية، أم أنها وجدت لكي يعبر الإنسان من خلالها عن ذاته خارج إطار يومياته البيولوجية.

ويستعين بها سواء أكان مبدعها أم متلقيها، لكي يكتسب رؤية للعالم وللزمن تربطه بوعي جديد، إنساني وروحي، ما يجعل مآل العمل الفني أو الفكري أو الأدبي، أن يُعرض ويشاهَد بغض النظر عن مكان عرضه وطريقة مشاهدته؟

إنه السؤال الشائك حول الفن، لكنه في الوقت نفسه، السؤال الشائك حول مصير الأعمال الفنية. وتبدو المسألة في نهاية المطاف محيّرة، ومع هذا يمكن للمرء أن يتساءل استطراداً عما حلّ بجبران خليل جبران نفسه حتى بعدما حاول خصوم أمسه تدجينه: هل تبدلت نصوصه أم اكتسبت قراء جدداً كانوا يتبعون خصوم الأمس في خصومتهم له؟

لوحات المبدعين المحدثين المعلقة اليوم في مصانع الرأسماليين، ومكاتبهم، أو ليست معلقة هناك يمكن لمن يشاء أن يتأملها، وينفعل بها متى وكيفما يشاء؟ بل أكثر من هذا لئن كانت اللوحات معلقة في مكان محدّد أفلا يمكننا أن نلاحظ كيف أنها «بفضل إعادة الإنتاج الميكانيكية» في استعارة من فالتر بنجامين، تُطبع اليوم بملايين النسخ، وتعلق في كل مكان؟ وماذا عن الأفلام والمسرحيات والكتب؟

إن الحقيقة التي لا مراء فيها، وبصرف النظر عن مسألة التدجين التي قد تكون حقيقية، لكنها غير فعالة على الإطلاق، هي أن الفنون باتت اليوم في متناول الناس جميعا وبأسعار زهيدة ومنتشرة في كل مكان، من دون أن نتوقف هنا عند الإمكانات التي يتيحها الإنترنت واليوتيوب وكل التكنولوجيات الحديثة.

فإذا كانت قد باتت غير قادرة على الفعل كما في أزمان روسو، وطه حسين والأفغاني. لا بد من البحث عن الأسباب خارج مسألة التدجين، التي قد لا نكون مخطئين إن رأينا فيها على العكس من هذا، انتصاراً للمبدعين ولو بعد الرحيل!