هذه الحكاية التي سوف يعرف القارىء اللبيب بعد قليل لماذا نتذكرها هنا، حدثت أواخر سنوات الستين.

يومها توجهنا من بيروت إلى بلدة صغيرة في الشمال الشرقي السوري مجموعة من أصدقاء ملبّين دعوة صديق يقيم هناك أحب أن نشاركه احتفاله بافتتاحه أول استديو لبيع الكاميرات والأفلام الفوتوغرافية وتصوير الأفراح والمناسبات.

وصلنا واحتفلنا وسط الرقص الشعبي والزغاريد وهنأنا صاحبنا لنعود كل إلى دياره بعد يومين لاحظنا خلالهما أن الإقبال على الاستديو كان كبيراً ما طمأننا على مصير صاحبه وازدهاره المقبل.

بعد شهور التقينا الرجل في بيروت حزيناً مكفهراً. ما الأمر ياصديقنا؟ سألناه وقد اعتقدنا أول الأمر أنه قصد العاصمة اللبنانية ليزود محله بالبضائع الجديدة. لكنه فاجأنا بقوله إنه أقفل الدكان. لماذا؟ هل لم تسر الأشغال على ما يرام؟ بالعكس، قال، لقد بعنا جيداً وربحنا كثيراً. إذاً؟ تساءلنا في دهشة.

فقطب وروى لنا حكايته: منذ زمن وقبل افتتاح الاستديو بسنوات، كان ثمة همس في البلدة يتعلق بعلاقة ما بين زوجة المختار ورجل نافذ في البلدة. كان كثر يتحدثون عن هذا، ولكن ما من أحد كان يملك دليلاً ملموساً.

وحين افتتح الاستديو إشترى منه بعض الشبان المشاكسين، كاميرا وأفلاماً وتمكنوا من تصوير لقاء بين الزوجة والرجل النافذ، وحين وُزّعت الصور سراً على البيوت والحوانيت، اجتمع مجلس أعيان القرية لبحث الفضيحة فكان قرارهم إقفال الاستديو، أُقفل وتوجه صاحبه الى بيروت باحثاً عن عمل، فيما عادت السكينة والهدوء إلى البلدة الوديعة الصغيرة.

في الآونة الأخيرة تذكّرنا هذه الحكاية كثيراً وحرنا هل نضحك إزاءها أو نغضب.

وبالطبع تذكرناها في مناسبات محددة، تتعلق جميعاً بالإعلام وما بات يُوجّه إليه من تهم تُحمّله المسؤولية عن كثير من السوء الذي يحدث في أماكن كثيرة من العالم.

ولعل الذروة وصلت قبل أيام قليلة ، في غمرة انشغال الإعلام العالمي بتتبع نتائج توزيع جوائز الأوسكار، مرّر الرئيس الأميركي ترامب رسالة إلى جمعية المراسلين الصحفيين العاملين في البيت الأبيض يعلمهم فيها نيّته عدم حضور الحفل السنوي الذين اعتادوا إحياءه في ربيع كل عام ودائماً تحت رعاية الرئيس.

هذه المرة قال هذا الأخير بكل صرامة إنه لن يكون حاضراً، معلناً نوعاً من حرب صغيرة بينه وبين الإعلام الذي لم يتوان عن اتهامه بالتحيز ضده منذ بداية حملته الإنتخابية.

مثل هذا الإتهام وجهته في فرنسا قبل أيام أيضا مرشحة اليمين الفاشي المتطرف للرئاسة الفرنسية السيدة مارين لوبن للصحافة إجمالاً تتهمها فيه بالكذب والتجني، بل حتى بأنها هي والإعلام عموماً يقفان «وراء الشعبية التي بات يتمتع بها منافسها الأقوى على المنصب، اليساري الوسط مانويل ماكرون».

ومن الواضح أن السيدة لوبن - التي سنظل نتساءل بدهشة واستنكار عما جعل كثراً من العرب يستقبلونها ويصفقون لها وهي التي جعلت لبّ حملتها عداءها للعرب والمسلمين – ورثت مواقفها المعادية للإعلام، من أبيها المتطرف بدوره الذي، بدوره أيضا، كان يعتبر الإعلام عدوه اللدود!.

هنا لا بد من الإشارة إلى أن السيدة لوبن تعتبر نفسها من أشد المعجبين بساكن البيت الأبيض الجديد الذي تشاطره أفكاره ولا سيما منها ما يتعلق بكراهيتهما المشتركة للمسلمين.

يشارك ترامب في إثارة إعجاب السيدة الفرنسية الرصاصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بالكاد تختلف أفكاره عن أفكارهما، لكنه يبدو أكثر عمليةً منهما من ناحية علاقته مع الإعلام، فهو لا يعادي الإعلام في بلده اليوم، ولكن لسبب بسيط: لأنه تمكن خلال السنوات القليلة الماضية من تدجين الإعلام الروسي كله.

بل حتى من الإنفلاش إعلامياً خارج حدود بلاده، وربما أيضا خارج القدرات الإقتصادية لبلاده... منوعاً اشتغاله هنا، من دعم إعلامه «العالمي» لكل ما هو دكتاتوري ودموي في العالم، الى اشتغال خبرائه على تسريبات وأنواع من الإعلام تشتغل عبر وسائل الإتصال المختلفة متدخلة في معارك الآخرين.

ونعرف أن لدى المرشحة الأميركية السابقة للرئاسة ألف شكوى في هذا المجال، واليوم ها هي صحيفة «واشنطن بوست» تكتب عن تدخلات إعلام الرئيس بوتين ضد المرشح الفرنسي ماكرون نفسه، لصالح السيدة لوبن!.

الواقع أن في إمكان هذا النص الذي ندبجه هنا أن يتواصل طويلا ليتحدث عن مواقف «كبار» سياسيي العالم الجديد من الإعلام ومحاربتهم له أو تفريغه من معانيه وجعله مجرد سلاح في يدهم عبر قمعه أو تسفيهه أو تدجينه، ولا سيما في زمن يعاني فيه هذا القطاع ما يعاني... لكننا سنكتفي بالأمثلة الفاقعة راجين من القارئ أن يعود لقراءة القسم الأول من هذا المقال إن فاته أن يدرك العلاقة بينه وبين القسم الأخير!.