في ستينيات القرن الفائت نشر الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني واحداً من أجمل وأقسى نصوصه القصصية، وذلك على شكل رواية متوسطة الطول حملت عنوان «رجال في الشمس».

وتلك الرواية القصيرة التي ما لبث المخرج المصري توفيق صالح أن حوّلها في سورية إلى فيلم اشتهر في حينه ولا يزال يعتبر إلى اليوم واحداً من أقوى الأفلام العربية، وهو فيلم «المخدوعون»، أتت يومها لتتحدث عن ثلاثة من اللاجئين الفلسطينيين خططوا للتسلل من العراق إلى الكويت للعمل هناك بعدما سُدّت الأبواب في وجوههم وبدا كأن وطنهم ضاع وربما إلى الأبد.

وكان التسلل لأن السلطات كانت في ذلك الحين تمنع تدفق اللاجئين إليها ما اقتضى سلوك درب الانتقال بواسطة التهريب.

كان التهريب، في حال الفلسطينيين الثلاثة يتم من خلال نقلهم سراً في خزان شاحنة فارغة بمعرفة السائق الذي كان معتاداً على ذلك النوع من الصفقات.

كان الحر في يوم التنفيذ مرعباً ومع هذا لم يتوان المتسللون الثلاثة عن خوض المغامرة آملين ألا تستغرق عملية عبور الحدود ونقطة التفتيش أكثر من برهة يسيرة. وقالوا إن بإمكانهم الصمود داخل الخزان ريثما يدبّر السائق أموره سريعاً ويوصلهم إلى جنة العيش والعمل الموعودة.

لكن المعاملات التي راح السائق يجريها استغرقت من الوقت ما يزيد كثيراً عما هو متوقّع وبخاصة أن رجال الحدود راحوا يثرثرون معه مازحين غير عارفين طبعاً أن ثمة في شاحنته ثلاث أرواح تهلك تحت وطأة الحر والاختناق.

وكانت النتيجة أن قضى المتسللون وهم مستنكفون حتى عن دقّ جدران الصهريج... خوفاً من أن ينكشف أمرهم. كانت قاسية إذاً قصة كنفاني هذه، وكان قاسياً أيضاً الفيلم الذي اقتبس عنها.

لكن كثراً من القراء والمتفرجين نظروا إلى الحكاية على أنها غير قابلة للتصديق، وأن ما حدث فيها للاجئين الثلاثة أمر لا يمكنه أن يحدث في أي مكان في العالم، وهكذا قُبلت «رجال في الشمس» على سبيل الكناية والرمز، دون أن تُقبل كقطعة من أدب واقعي.

بعد ذلك بثلث قرن تقريباً، جاءت الأخبار من الحدود المكسيكية / الأميركية متحدثة عن مقتل نحو ستين متسللاً مكسيكياً كانوا في طريقهم لعبور نلك الحدود سراً داخل عربة – صهريج ملحقة بقطار اعتاد عبور تلك الحدود رسمياً دون أن يتعرض لصعوبات أمنية، ولكن في ذلك اليوم القائظ المرعب، كان من حظ أولئك المتسللين السيئ أن رجال الحدود تباطأوا لسبب أو آخر في إنجاز معاملات العبور.

ومع مرور الوقت راح العمال المتراكمون فوق بعضهم البعض يذوبون حراً وخوفاً وألماً لينتهي الأمر بمقتل كل ذلك العدد الكبير منهم من شبان لم يُكتشف مصيرهم إلا بعد مرور ساعات الانتظار الطويلة عند النقطة الحدودية.

كان مرعباً وقاسياً ويحمل إدانة عنيفة لما آلت إليه إنسانية البشر ذلك الحادث الذي ما إن انتشرت أخباره في العالم كله من طريق وكالات الأنباء، حتى فغر كثر أفواههم وقالوا إن ما من إبداع في هذا العالم يمكنه أن يعبر عن وحشية تلك الكارثة الإنسانية.

هؤلاء لو كانوا قرأوا رواية كنفاني القصيرة أو شاهدوا الفيلم المقتبس عنها، لما قالوا هذا ولاعترفوا بأن الحياة يحدث لها في مرات عديدة أن تقلّد الفن لكنها، في معظم الحالات ستكون أشد عنفاً منه، ودائماً ضمن خانة ما يصعب، أو حتى، يستحيل تصديقه.

نتذكر هذا ونحن نشاهد اليوم ما تنقله إلينا الشاشات الصغيرة نقلاً مباشراً، على الأقل من ساحتين رئيسيتين من ساحات الكوارث العربية الراهنة، وذلك بعد زمن من انتشار تلك الصور والأفلام الأخرى التي راحت تصوّر اندفاعات عشرات ألوف المهاجرين، من سوريين وعراقيين وغيرهم، نحو المجاهل الأوروبية «المعادية» أو نحو أعماق البحار، هرباً من واقعهم المحلي الذي بات نابذاً لهم بالقوة ومدمراً لمستقبلهم.

اليوم بعد تلك التغريبات الأوروبية المريعة، ها هي الشاشات تنقل إلينا صور تلك التهجيرات القسرية الداخلية منطلقة من حلب أو من غوطة الشام أو من حي الوعر السورية، أو من الموصل وغيرها في العراق.

إنها مشاهد قد لا يكون لها معادل في أدب عربي سابق، لكن في إمكاننا دائماً أن نعثر على ما يماثلها وما استبقها، مثلاً في رواية «دروب الجوع» للكاتب البرازيلي جورج آمادو، أو في رواية «حرب نهاية العالم» للبيروفي بارغاس يوسا... ففي الروايتين أجواء وتعاسات مشابهة، حين قرئتا قال كثر: إنها أغرب من الخيال.

لكنها إذ تتجسد اليوم على أرض الواقع، وأمام أعيننا المشرئبة إلى الشاشات تكاد تقول: ما أرحم ما يحدث في الخيال، أمام كآبة وعنف ما يحدث في الواقع...!