في الخامس والعشرين من مارس الجاري، ستحتفي دبي، مع العالم بأسره، باستضافتها لأحد أهم الأحداث في عالم سباقات الخيول ألا وهو «كأس دبي العالمي لسباق الخيل» بدورته الثانية والعشرين، والذي يحظى سنوياً بمشاركة نخبة من أفضل الخيول من مختلف أنحاء العالم للتنافس على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة التي اشتهرت عبر التاريخ بتراثها الغني وتقاليدها العريقة في هذا الميدان.

حيث يستقطب هذا الحدث اهتمام الآلاف من عشاق الخيول ورياضاتها الذين يحرصون على حضوره ومتابعة فعالياته من داخل الدولة وخارجها؛ إلا أن الكثيرين أيضاً ربما يتطلعون لمعرفة المزيد حول سباقات الخيول، معلومات بسيطة من شأنها أن تضيف أبعاداً جديدة إلى تجربتهم مع السباق.

فغالباً ما تكون لدى البعض أسئلة بسيطة تبحث عن إجابات قد لا تتوفر في الكتب والتقارير المتخصصة التي غالباً ما تُركّز على الأصول والنظريات أكثر من اهتمامها بشرح ماهية هذه الرياضة الرائعة للمبتدئين.

لذلك، أردت أن أشارككم بعض أفكاري عبر سلسلةٍ من المقالات، وحتى تاريخ انعقاد كأس دبي العالمي، أملاً في توضيح جوانب هامّة لهذه الرياضة وأسرارها لشريحةٍ أكبر من المهتمين.

أوائل من ركبوا الخيل في العالم، وهم على الأرجح سكان شبه الجزيرة العربية وآسيا الوسطى قبل حوالي 5500 سنة، أطلقوا شرارة ثورة عالمية لم تخب جذوتها قَطّ.

فقد كان لاستئناس الخيول (حتى تألف الإنسان) أثر عميق على تاريخ البشر. إذ بُنيت الحضارات على صهواتها، سواء من خلال حرثها للحقول أو جرها للأحمال والعربات أو حملها للجنود إلى ساحات المعارك.

توقفت نتائج كثير من الحروب على مهارة هؤلاء المحاربين على صهوات خيولهم، الذين اكتسحوا مناطق شاسعة من العالم.

كما مكّنت الخيول الإنسان من السفر لمسافات طويلة بصورة مريحة نسبياً، فاتحة بذلك مزيداً من الفرص للتجارة وآفاقاً أخرى لم تُطرق من قبل.

وغيّر استئناس الخيل عالمنا تغييراً جذرياً ولعب دوراً جوهرياً في رسم معالم الدول كما نعرفها اليوم، ولم يكن لأي حيوان آخر مثل هذا التأثير على الواقع الجغرافي-السياسي، وكذلك على مفهوم السرعة؛ فقد وفرت الخيل وسائل نقل قوية وسريعة، في حين كان الخيل أيضاً رمزاً للمكانة المرموقة لمن يستطيع امتلاكه والعناية به.

وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن طبيعة البشر تغيرت كثيراً على مر آلاف السنين؛ فما هي إلاّ مسألة التقاء رجلين يتباهى كلٌّ بخيله، فما لبثا يستبقان ليثبتا أياً منهما أسرع.

فسباق الخيول بأشكاله المختلفة لم يكن حكراً على جيل أو حضارة بعينها، بل إن جميع الحضارات الكبرى تقريباً على مدى آلاف السنين عرفت شكلاً ما من أشكال السباق. فقد عرفه قدامى اليونانيين والبابليين والسوريين والمصريين. ولعل معظم أشكال السباق المعروفة حول العالم تعود في الأصل إلى منافسات مرتجلة كان الغرض منها معرفة خيل من هو الأسرع.

فقد اكتسبت المطاردة الخطرة بين عربات السباق، التي كانت تعتبر آنذاك بمثابة سيارات السباق، شعبيةً واسعةً لدى الإغريق والرومان، وكذلك في الإمبراطورية البيزنطية أيضاً.

وتطور سباق الخيل إلى فن هام أيام الرومان وشكَّل مصدراً رئيسياً من مصادر الترفيه لدى الجمهور.

ومثّلت منافسات ركوب الخيل أحد مكونات الألعاب الأولمبية القديمة. كما أدت رياضات ركوب الخيل دوراً هاماً مزدوجاً، تمثل في تمكين المحاربين من التدرب والارتقاء بمهاراتهم في مجالات الفروسية لأغراض الحرب.

أما سباق الخيل في أيامنا المعاصرة فيتخذ مظاهر شتى، وأكثر ما يثير اهتمام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، فئتان منها، وهما سباقات القدرة والسرعة (المضمار).

سباق القدرة كما يدل عليه اسمه، اختبار لمدى القدرة على التحمُّل والجَلَد والصبر والصمود واللياقة البدنية، لأن الخيل وفارسه يقطعان فيه مسافات كبيرة ــ تصل إلى مئة ميل. وتنسجم سباقات الخيول المهجّنة الأصيلة (ثوروبريد) تماماً مع نقطة القوة التي تتميز بها هذه السلالة، ألا وهي السرعة. ونحن في دولة الإمارات نختص بسباقات المضامير للخيول العربية الخيول المهجّنة الأصيلة (ثوروبريد).

سلالة الخيل العربي رفيقة دربنا منذ الحقبة التي سبقت بعثة رسول الله محمد «صلى الله عليه وسلم». وما أكثر الأحاديث النبوية الشريفة والأقوال المأثورة في تراثنا التي تمنح الخيل العربي مكانة رفيعة في مجتمعنا.

وتعود أصول سباقات الخيل الحديثة، إن جاز التعبير، إلى قرابة القرن الثاني عشر الميلادي، حين اصطحب الفرسان الإنجليز معهم بعض الخيول العربية إلى بريطانيا وهم عائدون من الحملات الصليبية. فقد كانت سماتها المميزة واضحة وتمت مزاوجتها مع الخيول الإنجليزية لتحسين النسل. فقد كانت طبقة النبلاء والأشراف يبحثون عن السرعة، وكان كل منهم على استعداد للرهان على كون خيله أسرع من خيول أقرانه.

وبدأ سباق الخيل يتطور إلى رياضة احترافية مع مطلع القرن السابع عشر، عندما أصبحت منافسات السباق تُنظَّم على أساس فئة المشاهدين الذين يحق لهم المراهنة على النتيجة. وأصبحت هناك جوائز مالية، وتحولت عمليّة تناسل الخيول واقتناء الأسرع منها مشروعاً وصناعة من شأنها أن تدر أرباحاً.

وتزامن ظهور المعايير الاحترافية هذه مع بدايات نشأة سلالة الخيول المهجّنة الأصيلة (ثوروبريد). ويعود نسب كل خيول الثوروبريد التي تشارك في سباقات اليوم إلى واحد على الأقل من ثلاثة فحول من الخيول العربية الأصيلة التي اُصطحبت من الصحراء العربية إلى بريطانيا، والتي تعد أصل هذه السلالة.

فقد تركت هذه الخيول الثلاثة، وهي «جودلفين» العربي و«دارلي» العربي و«بيرلي تورك» – والتي سُميَّت على أسماء ملاكها الإنجليز – بصمة لا تمحى على هذه السلالة.

وكانت المهور المستولدة من هذه الفحول أول أجيال سلالة الثوروبريد. وقد أُطلقت على اثنين من مشاريع سباق الخيول العالمية التابعة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على اسم اثنين من تلك الفحول المرموقة، وهما «اسطبلات جودلفين للسباق» و«مشروع دارلي لتربية الخيول».

ولم يخطر ببال أحد من روّاد سباق الخيول الأوائل من الإنجليز أن تصل هذه الرياضة إلى ما وصلت إليه. ودارت هذه الرياضة دورة كاملة من خلال خيول السباق الأولى لتعود إلى موطنها الأصلي في الصحراء.

ربما أن سباق الخيول المهجّنة الأصيلة (ثوروبريد) في دولة الإمارات لا يزال في مرحلة مبكرة من عمره وفق المعايير العالمية، لكننا مع ذلك فقد قطعنا شوطاً كبيراً في هذا المضمار.

صحيح أن سباقات الخيول المهجّنة الأصيلة (ثوروبريد) نشأت بداية في مطلع القرن السابع عشر في بريطانيا، لكنها لم تبدأ في دبي حتى عام 1981، حين استضاف مضمار سباق الجمال أول لقاء جرت خلاله ثلاثة سباقات.

وشُيِّد أول مضمار سباق خُصص لهذا الغرض عام 1992، وهو مضمار «ند الشبا»، وبعد ذلك بأربع سنوات فقط أُقيمت الدورة الافتتاحية من كأس دبي العالمي، ليصبح يوم الجائزة الأكثر جاذبية في سباقات الخيل في العالم، مستقطبة سباقاته الزوار من كل حدب وصوب لمشاهدة أرقى سلالات خيول الثوروبريد تتنافس على الفوز بقوة.

ثم جاء مضمار «ميدان» الذي أكمل الآن من العمر سبع سنوات، ليكون أكبر مضمار للسباق في العالم، حيث تمتد منصّته الرئيسية لمسافة تزيد على الميل، ليصبح رمزاً لتطور سباقات الخيول في دولة الإمارات ودبي وأحد المكونات التي تُجسّد رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الخاصة لسباق الخيل في منطقتنا.

لقد رافق هذا الشغف بالخيول سموّه طوال حياته. وعُرِف بحبّه لتاريخ سباق الخيل والتحديات التي يمكنه التغلب عليها في طريق النجاح، وتنتاب سموّه الفرحة الكبيرة عند مشاهدة الخيول وهي تعدو.

كما أن صورة مدرج مضمار «ميدان» وهو ممتلئ بالجمهور لمشاهدة كرنفال كأس دبي العالمي تمنحه شعوراً بالفخر والاعتزاز بهذا الإنجاز الذي يأتي بين شواهد عديدة على قدرة دولة الإمارات العربية المتحدة وإمارة دبي لمواجهة كل التحديات.

تجدر هنا الإشارة، وكما تعلمون، إلى أن نموذج صناعة السباق في دولتنا لا يتطابق مع النموذج الغربي من حيث العائدات، لكونها في الغرب تعتمد في نسبة من تمويلها على المراهنات التي لا تسمح بها دولة الإمارات، وهو ما قد يفاجئ البعض من أصدقائنا الأجانب لكونهم غير ملمين بطبيعة ثقافتنا العربية وتعاليم ديننا الإسلامي الذي لا يجيز المراهنات، في حين يبقى التركيز على السباق كشكل من أشكال التنافس الرياضي الذي يلاقي شغف المهتمين بالخيل.

فنحن في نهاية المطاف نجد متعتنا في ارتباطنا الثقافي والتراثي بهذا المخلوق، واحترامنا للتاريخ الطويل لسباق الخيول ومعرفتنا العميقة به، وفي المستوى الاحترافي الرفيع لفريق التدريب، والأداء المبهر لهذه الخيول مهيبة الأداء على أرض المضمار.