لا يجادل الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته بحجج قائمة على أساس الجدارة، بل يعملون على مهاجمة المؤسسات التي تخرج بالحقائق والبراهين التي لا تعجبهم.

وقد حذّر السكرتير الصحافي للبيت الأبيض شون سبايسر أخيراً من أن «مكتب الميزانية التابع للكونغرس» غير الحزبي لا يمكن الوثوق به في الخروج بأرقام دقيقة عن التكاليف والتغطية المترتبة على إحلال الجمهوريين لـ «قانون رعاية صحية يمكن تحمل تكاليفه».

وقال: «إذا كنتم تبحثون عن الدقة في مكتب الميزانية التابع للكونغرس، فإنكم تبحثون في المكان الخطأ».

فأين هو الموقع الصحيح لهذا القانون؟ هل هو البيت البيضاوي؟

ولنضع في الاعتبار ان مدير مكتب الميزانية هو اقتصادي ينتمي الى الحزب الجمهوري، ومسؤول سابق في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، وقد تم اختياره للمنصب من جانب كونغرس جمهوري في عام 2015.

ومهما كان الأمر، يبقى البيت الأبيض قلقاً بشأن ما سيقوله عن «رعاية ترامب»، فقام كما يقول المثل العربي «تغدى بيه قبل أن يتعشى بيك». لأكثر من أربعة عقود، اعتمدت عملية الميزانية الأميركية على تحاليل مكتب الميزانية التابع للكونغرس وتوقعاته. وقد اكتسب هذا المكتب سمعة طيبة من الصدق والمصداقية من جانب الجمهوريين او الديمقراطيين، والآن يجري تلطيخ سمعته.

كانت تلك «طريقة عمل» ترامب عندما يكون في مواجهة حقيقة لا تعجبه.

عندما كانت أرقام التوظيف الإيجابية الصادرة عن «مكتب إحصاءات العمل»، التي تظهر تحسناً في الاقتصاد تحت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، لا تعجب ترامب، فماذا كان يفعل عندما كان مرشحا؟ وقد وصف معدل البطالة الرسمي بأنه «رقم زائف»، وهذا يعتبر من أكبر الخدع في السياسة الأميركية الحديثة.

أخيرا، اتهم مدير ميزانية ترامب، ميك مولفاني، إدارة أوباما بتصحيح البيانات الفيدرالية لخفض عدد الأميركيين العاطلين عن العمل.

وقال لمحطة «سي إن إن»: «اعتقدنا لفترة طويلة، وأنا اعتقدت شخصياً، أن إدارة أوباما كانت تتلاعب بالأرقام، في ما يتعلق بعدد المنتمين إلى القوة العاملة، في سبيل جعل معدل البطالة، أي معدل النسبة المئوية، تبدو أقل مما كانت عليه». ومن الممكن الاعتراض على الطرق التي يقيس بها مكتب إحصاءات العمل أرقام البطالة، فلماذا تقويض الثقة الشعبية بالمكتب نفسه؟

بطبيعة الحال، عندما بدت أرقام الوظائف في فبراير الماضي وردية، تبنى البيت الأبيض تحت إدارة ترامب تقرير التوظيف الشهري، لكن الضرر كان قد حصل، وبدت إحصاءات مكتب العمل بأنها مسيسة.

ويحاول سبايسر ان يغلف هجمات ترامب على المؤسسات برداء شعبوي. وفي يناير الماضي، قال: «اعتقد ان ترامب عالج هذا الموضوع في خطاب التنصيب، عندما تحدث عن انتقال السلطة خارج واشنطن، وإعادتها الى الشعب الأميركي».

هذا من باب الهراء، إذ ان الطريقة الوحيدة التي يمكننا فيها فهم أبعاد المشكلات التي تواجه الناس هي من خلال البيانات المعدة عنها، من مصادر موثوقة.

لكن إذا كان يتم التشكيك بمصداقية تلك المصادر من قبل رئيس الولايات المتحدة الأميركية، فإن الشعب قد يفقد الثقة بتلك المصادر، ويكف عن التصديق بوجود المشكلة.

وعندما لم يتفق ترامب مع الاستنتاجات التي توصل لها القضاة بشأن «حظر السفر» الأصلي، لم يقدم أي أسباباً. بل قال عن القاضية التي أصدرت أحقية البقاء «ما يوصف بالقاضية» وشن هجوما على قضاة الاستئناف الذي علقوا المرسوم وقال إنهم مسيسون جدا.

وعندما أنحى باللائمة على أجهزة الاستخبارات على سقوط أول مستشار عينه لشؤون الأمن القومي، لم يوضح سبب ذلك، بل شن هجوماً على تلك الأجهزة، وأطلق تغريدات مهينة مع وضع كلمة «استخبارات» بين علامات اقتباس كطريقة للتشكيك بها.

وعندما يكره ترامب التقارير الصحافية، لا يحاول تصحيحها، بل يهاجم الصحافة ويصفها بأنها «عدو الشعب الأميركي»، و«تفتقر الى المصداقية»، ومطلقة «الأخبار الملفقة» وبأنها «حزب المعارضة»، ويشكك بدوافعها قائلا إن لديها أجندة خاصة تختلف عن أجندة الشعب الأميركي، أو عن أجندة البلاد.

وعندما تُبرز استطلاعات الرأي أن شعبيته في تراجع، لا يقول ترامب إنه يتوقع تحسناً في معدل شعبيته، بل يهاجم مجمل قطاع استطلاعات الرأي، مؤكدا ان «أي استطلاعات سلبية هي عبارة عن أخبار ملفقة».

وعندما يخرج العلماء باستنتاجات لا يتفق معها، لا يقدم مصادر من البيانات العلمية الأخرى الموثوقة، بل يهاجمهم.

ويعتقد ترامب أن التغيير المناخي مجرد خدعة. فيما أكد رئيس وكالة حماية البيئة الذي عينه أخيراً، أن التغيير المناخي ليس نتاج النشاط البشري.

فماذا تفعل إدارة ترامب للبرهان على هذه النقطة؟ لا شيء، بل تطلب من موظفي وكالة حماية البيئة إزالة الصفحات من الموقع الالكتروني للوكالة فيما يتعلق بالتغيير المناخي، وتهدد بمراجعة كل بيانات الوكالة ومنشوراتها، وتقترح خفضاً في الميزانيات في جميع مجالات البحوث العلمية في الحكومة.

أكاذيب ترامب الكبرى هي سيئة بما فيه الكفاية لأنها تطمس الحقيقية وتسبب الإرباك. لكن هجماته على المؤسسات التي نعتمد عليها كمصادر للحقيقة هي حتى أكثر خطورة، لأنها تجعل من الصعوبة على عامة الناس تصديق أي شيء.

في ظل الديمقراطية، تعد الحقيقة موضوعاً للخير المشترك، لكن ترامب يدمر بنشاط مؤسسات إبلاغ الحقائق التي تعتمد عليها ديمقراطيتنا.