في زمن الاتحاد السوفييتي، كانت العلاقة العربية مع موسكو، في معظم فتراتها، إيجابية، بحكم مواقفها المتطابقة في قضايا، أبرزها فلسطين، وبسبب انهيار الإمبراطورية السوفييتية، عّم الفراغ منطقة الشرق الأوسط، البعيدة جغرافياً عنها، وهيمن فيه معسكر واحد، هو الغربي.
وبسبب الفراغ، جاءت الفوضى في الصومال، وجنوب السودان، ولاحقاً العراق، فسوريا واليمن وليبيا وغيرها، عدا عن ظهور الإرهاب، وتردي الحال الأمنية في مناطق مستقرة، مثل باكستان وإثيوبيا.
الدول الإقليمية تخاف من التنافس على ممراتها وأسواقها بين المعسكرين، الذي يخلق توترات وحروباً، واكتشفت لاحقاً أن غياب التوازن الدولي في المنطقة أيضاً، يتسبب في انعدام للوزن وفراغات أكثر خطورة، لأنه لا يمكن تنظيم وتأطير النزاعات. وبتعافي روسيا، عادت للعب الدور الموازن في منطقتنا، ومناطق أخرى في العالم، ونحن نرى حالياً عملية تشكيل لواقع جديد، ويبدو أن سوريا هي الملعب الرئيس للعرض العسكري الروسي.
وسبق أن كتبت عن اللغز الروسي في بدايات تدخلها في سوريا، والحقيقة، لا يزال موقفها يشوبه غموض، وموقف غير مبرر للكثيرين في المنطقة، فلا توجد لموسكو خصومة مع أي من الدول العربية، حيث إن علاقاتها جيدة معها، بلا استثناء، بما في ذلك حكومات الدول القريبة من واشنطن، مثل مصر ودول الخليج والأردن.
كما أن التبادل التجاري أيضاً بين الجانبين، يعكس أفضل مرحلة في تاريخ العلاقة في نصف قرن. والتعاون متقدم في مجالات حساسة، مثل ترتيبات إنتاج البترول وتسعيره، تحدث لأول مرة، وهناك تعاون أمني في مجالات مكافحة الإرهاب. وهذا لا يمكن أن يقال عن العلاقة العربية مع النظام الإيراني، حيث أنه متوتر وسيئ على كل المستويات.
رأيي أن موسكو يمكن أن تبدل موقفها في سوريا، بخلاف طهران، ويمكن أن تكون المفتاح لإنهاء الأزمة بصيغة مرضية للمعارضة المعتدلة، لكن لا بد أن يسبق هذا التخيل إجابات مقنعة حول أسباب حماس وإصرار الكرملين على مساندة النظام السوري، وإيران بشكل أكبر، يمكن تفسيره من منظور التنافس الأميركي الروسي، الذي عاد للحياة من جديد.
إن موقف موسكو، امتداد لصراعها مع الغرب في العالم، وتحديداً في مناطقها الأقرب إليها، مثل أوكرانيا، فهي من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، التي يعتبرها الروس أهم دولة لهم سرقها الغرب، في ما عرف حينها بالثورة البرتقالية، مثل ثورات الربيع العربي، والتي ثارت مظاهراتها في العاصمة كييف، بعد بنحو ثلاث سنوات فقط من الفوضى العربية، وهذا يُبين الحساسية المفرطة عند روسيا ضد ما يحدث في سوريا، من ثورة على النظام، رغم الفوارق الكبيرة بين ما جرى في أوكرانيا وسوريا.
والنزاع بين روسيا والغرب، مستمر في عدد من مناطق نفوذها القديمة. فهل دعم الكرملين للنظام في دمشق، هو جزء من رفع مستوى النزاع مع الولايات المتحدة؟، لكن الأميركيين لم يبالوا كثيراً بالنزاع السوري الداخلي، فقد حرصوا فقط على مطاردة تنظيم داعش. شعور الروس بالرغبة في التضييق على الأميركيين في مناطق نفوذهم، مفهوم ومبرر، رداً على نشاط الغرب في غربي روسيا وشرقي أوروبا، إنما لا يمكن اعتبار سوريا ساحة حرب بالوكالة بين المعسكرين.
وهناك الكثير من المؤشرات على أن موسكو مستعدة للتصالح مع دول المنطقة في سوريا، والتوصل إلى حلول عملية، ويمكن أن تحظى بموافقة الأميركيين، الذين يبدو إنهم مستعدون للانخراط أكثر من ذي قبل في النزاع السوري.
والأميركيون لن يكرروا هجومهم اليتيم على إدلب، رداً على قصفها بالسلاح الكيماوي، وبدون حل سياسي، الأرجح أن يتبنوا دعم المعارضة السورية المعتدلة، من أجل الضغط على نظام الأسد والإيرانيين للقبول بحل سياسي وسط. وهذا التطور سيدفع الأوضاع إلى مزيد من التعقيد، وإطالة أمد الحرب الأهلية، إلا إذا قبل الروس بالتزحزح عن موقفهم الحالي، ويكونون هم صناع السلام الحقيقي في سوريا.