مرت الذكرى الثالثة والخمسون للوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق في 17 إبريل، دون أن يتذكرها أو يحتفل بها أحد، ربما لأن حلم الوحدة العربية لم يعد يشغل الأجيال العربية الحالية، وربما لأن الأوضاع في سوريا والعراق قد قلّصت هذا الحلم، وربما لأن هذه الوحدة الثلاثية كانت آخر وأقصر الوحدات العربية المعاصرة عمراً، إذ لم تعش سوى أقل من مائة يوم، فصلت بين التوقيع على ميثاقها في 17 إبريل 1963، وبين إعلان الرئيس جمال عبد الناصر -في 23 يوليو من العام نفسه- انسحاب مصر منها.
ولم يكن قد مر على الانفصال -الذي أدى إلى تفكيك الوحدة المصرية السورية في 28 سبتمبر 1961- سوى أقل من عام ونصف العام، حين قام الجيش العراقي في 8 فبراير 1963، بانقلاب أسقط حكم عبد الكريم قاسم، الذي رفض الانضمام إلى جمهورية الوحدة، ورفع شعار «جمهورية لا إقليم»، ولم يكتف قادة العراق الجدد بالإعلان عن أنهم يسعون إلى تحقيق الوحدة العربية، بل وحرصوا على تأكيد ذلك فأسرعوا -بعد أسبوعين من قيامها- بإرسال وفد رفيع المقام، إلى القاهرة لكي يشارك في الاحتفال بعيد الوحدة في 22 فبراير 1963، وبعد أسبوعين آخرين فاجأت العناصر الوحدوية في الجيش السوري الجميع، بالقيام بثورة أنهت حكم الانفصاليين الذين فككوا الوحدة المصرية - السورية، ليعلنوا أنهم يسعون لتحقيق الوحدة العربية، وتندفع الجماهير السورية إلى الشوارع في تظاهرات عارمة، تطالب بإعادة الأوضاع في سوريا إلى ما كانت عليه قبل وقوع مؤامرة الانفصال، حين كانت الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة، وتهتف «لا درس ولا تدريس إلا بعد عودة الرئيس».
وبعد أقل من أسبوع على قيام الثورة السورية وصل إلى القاهرة وفدان، أحدهما عراقي والآخر سوري، ليعقدا مع وفد مصري برئاسة الرئيس عبد الناصر، سلسلة من الاجتماعات المتلاحقة والمطولة، تدور حول كيفية تحقيق مطلب الجماهير العربية في البلدان الثلاثة بالإسراع في إقامة الوحدة.. بينها استغرقت شهراً كاملاً، عقدت الوفود خلاله 19 اجتماعاً.
وفوجئ أعضاء الوفدين السوري والعراقي، في أول اجتماع، بأن الرئيس عبد الناصر ليس متعجلاً مثلهم لإنجاز المهمة، قائلا إنها مهمة لا يمكن إنجازها دون إعادة تقييم تجربة الوحدة المصرية السورية التي لم تعش سوى 44 شهراً، خاصة أن «حزب البعث»، الذي شارك في تلك الوحدة، أيد الانفصال في بدايته، ووضع المسؤولية عن فشل الوحدة في عنق الرئيس عبد الناصر.
ومع أن عبد الناصر قد اعترف بأنه أخطأ حين وافق على حل الأحزاب الوحدوية التي كانت قائمة في سوريا قبل الوحدة، ما أدى إلى فراغ سياسي استغلته القوى المعادية للوحدة، إلا أنه لخص موقفه بأنه على استعداد لأي شكل من أشكال التعاون مع الحكم الجديد في العراق، على الرغم من علمه بأن حزب البعث العراقي، هو الذي يحكم في بغداد، ولكنه لا يعرف من الذي يحكم سوريا، وإن كانت كل الشواهد تؤكد أن حزب البعث السوري هو الذي يحوز الأغلبية في مجلس قيادة الثورة، وهو -بصفته رئيسا لمصر- ليس على استعداد لكي يكرر تجربة أثبتت فشلها، فضلا عن أن الوحدة الثلاثية سوف تتحول بهذا التركيب، إلى محاصرة مصر بين جناحين لحزب البعث، ما يقود إلى فشل جديد.
وانتهت المرحلة الأولى من الاجتماعات بالاتفاق على إجراء محادثات بين وفد من حزب البعث السوري، وبين الوفد المصري الذي اقتصر -في هذه المرحلة على «عبد الناصر» ونوابه ورئيس الوزراء- لترطيب الأجواء بين الطرفين، ثم عادت الوفود الثلاثة إلى استئناف المحادثات التي أسفرت عن توقيع ميثاق الوحدة الثلاثية.
وتعالت الزغاريد في معظم أنحاء الوطن العربي، تحتفل بإعلان الوحدة الجديدة، وتتوقع أن تكون البداية الحقيقية، لتوحيد الوطن العربي كله، وفجأة نشرت الصحف السورية مقالات تندد بالاتحاد الاشتراكي العربي في مصر، وتصفه بأنه مجرد لملمة عمال وفلاحين، وردت عليها صحف القاهرة بعنف أشد، وفي منتصف مايو 1963 بدأت «الأهرام» تنشر النص الكامل لمحاضر مباحثات الوحدة وما دار فيها.. لتحمله الإذاعات المصرية إلى كل أنحاء الوطن العربي، خاصة سوريا والعراق، فيما بدا محاولة لفضح حزب البعث، والإشارة إلى أنه يتوسل من أجل إتمام الوحدة، لتنتهى في 21 يوليو 1963 من نشرها، ويخطب جمال عبد الناصر في الاحتفال بعيد الثورة، فيستعرض الظروف التي تم فيها التوصل إلى ميثاق الوحدة الثلاثية، ويتهم «حزب البعث» بأنه لم يكن جاداً في السعي إليها، وأنه كان يعانى آنذاك ضغوط المظاهرات الشعبية التي كانت تطالب بالوحدة، في الوقت الذي لم يكن فيه قد أحكم قبضته بعد، على السلطة في سوريا والعراق، فقام بهذه المناورة الوحدوية، حتى تستقيم الأمور في البلدين، ويطمئن إلى قدرته على السيطرة عليها.. وما كاد ذلك يتحقق حتى بدأ يهاجم الوحدة ويسعى لإفشالها، وهو ما دعا عبد الناصر لكي يختم خطابه معلناً انسحاب مصر من ميثاق الوحدة الثلاثية بعد أقل من مائة يوم على توقيعه!