أن تدمن عملاً ما وتعشقه فهذا يعني بالضرورة أنك تستغل وقتك وتحاصر عمرك القصير بإنتاج ما تحب، وأن تشغف بشيء يعني أن تجتهد في تطويره لأن فيه حياتك المكثفة بل وخلودك، وأن تأسرك هواية وتغامر في منحنياتها فبالتأكيد أنك نابش عنيد في ثنايا الإبداع الخبيئة والمحتملة، فالشغف بهواية ما هو إلا الغواية عينها حيث يتوحد الإنسان روحاً وجسداً بما يحب فيرقص مترنحاً ويفيض عشقاً ويُحلّق بما يهوى.

ولكن بين عشق شيء ما واستخراج الأجمل فيه، وبين الهوس به والخضوع له ثمة فرق كبير، فقد يغرق العاشق فيتحوّل إلى مهووس شرس يجد لذته في هوسه، لا يهمه عقد اجتماعي أو ثقافة محيطة.

فقد نجد مهووساً تنتشي روحه بقتل الآخرين لأجل المتعة والتسلية، بل يتمادى في هوسه أن يفعل ذلك على الهواء ببث جنونه مباشرة أمام الآلاف من المتابعين مستغلاً تقنيات التواصل الاجتماعي، مثلما فعل المهووس الأميركي ستيف ستيفنز من مدينة كليفلاند في أوهايو.

حيث استعرض بقتل عجوز سيئ الحظ قد وقع عليه الاختيار، ولاحقاً، وُجد المهووس ستيفنز منتحراً بعد أن حاصرته صوره في كل مكان بصفته مطلوباً وخطيراً، فهل استمتع بقتل نفسه كما كان يستمتع بقتل الآخرين، وآخرون أكلهم الهوس ممن اغتصبوا وقتلوا وعذبوا أو انتحروا مباشرة عبر الفيسبوك أو غيرها من التطبيقات.

إنه الهَوَس الذي يؤذي الآخرين والمهووسين أنفسهم في غالب الأحيان، قال أحد المراهقين المهووسين بعد قتل وجرح زملائه بسلاح أتوماتيكي في المدرسة: ماذا فعلتّ!، لا أقوى على الانتحار فليقتلني أحدكم، اقتلوني أرجوكم؟

ولكن ما الذي يحدث لهذا العالم، ولماذا هذه الانزلاقات السوداء والأمراض النفسية المركبة تتكاثر في كل مكان وتتحول إلى جرائم وسرقات واغتصاب وتعذيب وإيذاء وانتهاك للآخرين جسدياً ومعنوياً، ولماذا أصبحت اللذة الروحية لدى الناس ليست فقط في دور العبادة أو ممارسة الهوايات والأعمال بما ينفع النفس والناس، وإنما متعتهم في هَوسِهم الاستعراضي والاستحواذ على الانتباه الكبير؟.

ولعل النمط العالمي الاستهلاكي الاستعراضي المسعور الذي نحياه ويلاحق المُعْدَم الفقير قبل المقتدر الثري، جعل الجميع في حالة عجز عن تحقيق الأحلام، إذ أنه في عالم الاستهلاك، ثمة حلم لا يتحقق ورغبة يصعب تحقيقها لأن الصعود إلى هاوية الاستهلاك هي مسألة متتابعة مثل كرة الثلج التي تتضخم لتصل إلى القاع فترتطم وتتفتت.

وسُعَار الاستهلاك هو المتعة اللحظية في اقتناء شيء ما لأجل المواكبة والاستعراض الذي غالباً ما تخبو متعته مع مرور الأيام الأولى لأنه غير ضروري وليس جذرياً في تلبية الرضا الذاتي اليومي للفرد بقدر ما هو تلميع الصورة الفردية وإرضاء الآخر، وما الهوس الجنوني إلا هو معادل موضوعي لحالة لفت الانتباه والاستعراض.

إن استغلال الشركات التجارية العالمية في كثير من المنتجات وخصوصاً الموضة وتحفيز لذة الاستهلاك المسعورة ودغدغة الأنا الفردية التائهة واستدراجها إلى دائرة الخلاص بالاستهلاك الاستعراضي، وإلى ذلك، يدور الإنسان أعمى في طاحونة الإعلانات الدعائية بغية ارتقائه كمستهلك وسعيه إلى كمال الشكل أمام الآخر.

ولكن كثرة ممن يدخلون الطاحونة ويعجزون عن تمويل هذا الهَوَس الاستهلاكي فيغدون فُرَادى قاصرين بلا طمأنينة وتصبح حياتهم هشة بين حَجَريْ رحى أعلاها الحلم المفقود وأسفلها الماكنة الدعائية، وبهذا النمط من الحياة التي تنزع عن الإنسان الرضا الذاتي وتنفخ فيه الفراغ الذي تغذيه الحياة العصرية.

مع التقنية الحديثة وتطبيقاتها التي تخدم الاستهلاك المادي والتهالك العاطفي والاجتماعي، أصبح العالم مجنوناً، ومهووساً وماديّاً ووقحاً إلى حدٍ كبير، فنرى أحدهم يصوّر صديقه بينما ينهشه أسد، أو يصوّر أطفالاً ينازعهم الموت نتيجة حادث مروري.

بدلاً من المساعدة والتعبير السلوكي عن الجانب الإنساني وهو ما يجب أن يربطنا بالضحية المحتملة في تلك اللحظة، يحاول هؤلاء المهووسون، وهم كثر في زمننا، التقاط الصورة وتوثيق اللحظة، لأن فيها استعراضاً استهلاكياً أمام العالم، وسيجمع هذا الاستعراضي الكثير من إشارات الإعجاب على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي.

وبل وقد يجني مالاً مما تقدمه هذه المواقع من مكافآت مقرونة بعدد زوار هذا الفيديو أو ذلك. فإلى أين يسير هذا العالم الاستهلاكي المهووس بالفردية والاستعراض بالجريمة والجنون. إلى أين يا تُرى؟ إلى أي هاوية يصعدون؟