بعد ثماني سنوات من فشل المناورة الأولى للوحدة العربية الثلاثية، في أعقاب اكتشاف عبد الناصر أن قيادة حزب البعث التي تولت الحكم في دمشق وبغداد، ليست جادة في سعيها للوحدة مع مصر.

خلال تلك السنوات الثماني، كانت قد جرت في الأنهار العربية مياه كثيرة، كان من أبرزها هزيمة 1967، التي أسفرت عن احتلال إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين، وأجزاء من أراضي مصر وسوريا، ليرتبط حلم الوحدة العربية هذه المرة، وبشكل مباشر بشعار «قومية المعركة» الذي كان يعني - من النواحي العسكرية والاقتصادية والسياسية - محاولة بناء جبهة عربية واسعة، تساهم في تحرير الأرض العربية المحتلة، بعد أن تواضعت أحلام العرب من تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، إلى مجرد المطالبة بتحرير الأرض التي احتلت عام 1967.

وعلى الرغم من أن الصراعات بين أنظمة الحكم العربية، كانت قد خفت في أعقاب الهزيمة وبسببها، إلا أن شعار «قومية المعركة» ظل طائراً غير قابل للتحليق بسبب الخلافات بين الأنظمة العربية.

وكان ذلك ما شجع جمال عبد الناصر على إعادة فتح ملف الوحدة العربية الذي أغلقه في أعقاب افتضاح مناورة وحدة 1963، فوافق على الدخول في جولتين من المفاوضات أسفرت الأولى، عن توقيع «ميثاق طرابلس» في 27 ديسمبر 1969 بين الأقطار الثلاثة.

وكان أقرب إلى اتفاق مبادئ بعد أن اعتذرت السودان لأن ظروفها الداخلية، خاصة حركة التمرد التي أشعلت الحرب الأهلية بين الشمال وبين الجنوب، لا تسمح لها بأكثر من ذلك، وإلا أدى إلى تقوية الانفصاليين في الجنوب، ولم تمانع الخرطوم من أن تسعى القاهرة وطرابلس إلى مستوى أوثق من الوحدة، على أن تنضم إليهما حين تسمح ظروفها بذلك.

بعد عشرة شهور على ذلك، انتقل خلالها الرئيس عبد الناصر إلى رحاب الله، ليخلفه الرئيس السادات، وحدثت حركة التصحيح في سوريا، فوجئ كبار المسؤولين في مصر، وبينهم نائبا رئيس الجمهورية وأقطاب الاتحاد الاشتراكي العربي والوزراء - في إبريل 1971 - بوصول الرؤساء الثلاثة، القذافي والأسد والنميري إلى مصر، وبأنباء تتحدث عن أنهم سوف يبحثون قضية الوحدة بين الأقطار الأربعة، طبقاً لميثاق طرابلس، واستغرقت المباحثات يومين.

لم يتح خلالهما للوفد الذي يمثل مصر فيها أن يعقد اجتماعاً واحداً لأعضائه، ولم يستدعهم الرئيس السادات للاجتماع به، ولم يتح لأحد منهم الفرصة لحضور الاجتماعات، فوجئ أعضاء الوفد، باستدعائهم للسفر فوراً إلى «بني غازي» بعد أن قرر الرؤساء استكمال المباحثات هناك.

ومع أن الصحف ووسائل الإعلام في العواصم الثلاث، بدأت تبشر العرب بأن قومية المعركة قد تحققت بهذه الوحدة بين الجمهوريات الثلاث، وتعيد بث أغاني الوحدة المصرية - السورية التي انتقلت إلى الأرشيف بعد انفصال سوريا، إلا أن البحث عن المبرر الذي دفع الرئيس السادات إلى التلهف على إتمام هذه الوحدة كان قد انتهى بشركائه في السلطة من ورثة عبد الناصر، إلى معرفة أن الهدف من إتمامها ليس قومية المعركة، ولكنه انفراد بالسلطة داخل مصر.

إذ كانوا قد تعمدوا ترشيحه لرئاسة الجمهورية وفي ظنهم أنه أسلس قيادياً من غيره، وأنه سيكون مجرد واجهة تكتفي بأبهة السلطة، دون أن تمارسها، فتركوا له منصب رئيس الجمهورية، وتفرغوا للسيطرة على مفاصلها الأساسية من الجيش إلى أجهزة الأمن، ومن الإعلام إلى التنظيم السياسي الوحيد في البلاد وهو الاتحاد الاشتراكي العربي.

ولكن انفراده باتخاذ بعض القرارات المهمة دون أن يحصل على موافقة اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، أو يستشير أحدهم بشأنها، الذي وصل إلى ذروته بإجرائه اتصالات سرية لاستئناف المحادثات حول ميثاق طرابلس دون أن يعرفوا عنها شيئاً، وبينما كان هو يبرر ذلك، بأن الذي وقع على ميثاق طرابلس هو «عبد الناصر» وبأن اتفاق الوحدة الثلاثية لم يخرج عن الخطوط العامة لهذا الميثاق.

وبأنه ليس مطالباً - كرئيس للجمهورية - بأن يعرض على اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي كل قراراته، لأن ذلك يحول بينه وبين المناورة، ويصادر السلطات التي يمنحها له الدستور.. ولم يقنع ذلك شركاءه في السلطة، الذين أدركوا أن السادات لم يسع لتوقيع اتفاقية اتحاد الجمهوريات العربية، إلا لكي يحقق هدفاً أساسياً، هو أن يستند إليه لكي يعيد بناء الاتحاد الاشتراكي العربي من القاعدة للقمة بالانتخاب، وبذلك يجليهم عن مركز السلطة الأساسي الذي يتحصنون به، ويفقدهم شرعيتهم بعد أن نازعوه سلطته.

وذلك ما كان، حاول هؤلاء أن يتخذوا من موقعهم في اللجنة التنفيذية العليا منصبه لكي يعيدوا السادات، إلى «بيت الطاعة» ولكنهم فشلوا في ذلك، وانتهى الأمر بعزلهم عن مناصبهم واتهامهم بالخيانة العظمى، وتقديمهم إلى محكمة قضت عليهم بأحكام قاسية، وفي أعقاب ذلك نسى السادات تماما «اتحاد الجمهوريات العربية» الذي وقع على اتفاقية إنشائه في 17 إبريل 1971 - وهو نفس التاريخ الذي وقع فيه اتفاق الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963 - وألغاها بعد ذلك بثلاث سنوات!

وهكذا تكون قومية المعركة وإلا فلا!