يقال حول شؤون السينما عادة، إنه كلما ازدادت كتابات النقاد حول فيلم من الأفلام حماسة له وإمعاناً في تقييمه وتحليله، زاد انصراف الجمهور العريض عنه.

ومن هنا اعتادت شركات الإنتاج الكبرى، من أميركية وغير أميركية، الاستنكاف إرسال أفلامها الضخمة إلى المهرجانات أو دعوة كبار النقاد الجادين إلى حضور عروضها الأولى.

ما يمكن قوله حول السينما في هذا السياق، قد يصح اليوم قوله حول السياسة، ومن هنا نجد كبار السياسيين والمرشحين للمناصب الكبرى، بما فيها رئاسة الجمهورية، في البلدان التي تتبع أنظمة التصويت الديمقراطي، يفضلون ألا يجعلوا للمثقفين والمفكرين الجادين مكاناً أو مكانة في بطانتهم.

فالشعبوية السائدة في عالم اليوم، حيث تنهار القيم الإنسانية والأفكار الكبرى الموروثة من عصر التنوير وأفكار القرن التاسع عشر وما إلى ذلك، تتناقض تماماً مع الحضور، ولو الخجول، للمفكرين في المعمعة الانتخابية ومعاركها.

بل نلاحظ في بلدان شهدت معارك انتخابية أو استفتاءات شعبية في الآونات الأخيرة، كيف عبر مرشحون ومسؤولون في خضم لجوئهم إلى الأفكار الشعبوية التي تخاطب الناس في غرائزهم وغضبهم ومخاوفهم، عن حذرهم من الثقافة والمثقفين فاستبعدوهم بل وقفوا منهم مواقف عدائية واستصغارية.

جعلت كل صاحب عقل وفكر ينأى بنفسه بعيداً عن الساحة العامة إن لم يغامر بخوضها ضد الديماغوجية والشعبوية، وفي كل مكان حدث هذا فيه بدا السياسيون الشعبويون على حق والمثقفون على خطأ، ليس في الأفكار طبعاً وإنما في التكتيكات الانتخابية.

وطبعاً لن نلعب هنا لعبة الأسماء والتحديدات لكن الأمثلة واضحة للعيان. أو كانت واضحة، حتى برز ما يمكننا أن نسمّيه «الاستثناء الفرنسي» خلال الشهور الأخيرة.

في فرنسا، ومنذ ظهر المرشح إيمانويل ماكرون على الساحة الانتخابية معلناً وسطية إيجابية، أي وسطية غير مائعة كما تعتاد الوسطيات أن تكون، مموضعاً نفسه بين يسار فقد صدقيته ويمين فقد قيمه.

وهو يعرف، إذ يبدو قادراً على تحييد الحزبين الكبيرين اللذين تقاسما حكم البلاد منذ نصف قرن وأكثر، أن معركته الرئيسة سوف تكون ضد اليمين واليسار المتطرفين. وكان يعرف أنها لن تكون معركة سهلة في زمن تنتصر فيه شتى ضروب التطرف في العالم ويبدو أنه لم يعد ثمة مكان للعقل.

كان ماكرون يعرف أنه يغامر. لكنه، وكما سوف يقول بعد ساعات من فوزه: «كلهم قالوا لنا إن هذا الفوز سيكون مستحيلاً، بيد أن الذين قالوا هذا لم يكونوا يعرفون فرنسا!» وبدا واضحاً أن الرئيس الفرنسي الشاب على حق.

ولكن بدا واضحاً أكثر من هذا أن فرنسا التي يعرفها هو جيداً، تختلف تماماً عما يعتقده المهرولون ناحية الشعبوية. كان يعرف على الضدّ من كل المراهنات، أن البلد الذي يتطلع إلى حكمه كان لا يزال يشكل استثناءً على صعيد العالم. على صعيد عالم اليوم في انحداراته تحديداً.

ومن هنا لم يتردد ماكرون، منذ بدايات حملته في التمسّك رغم كل المخاطر، بأثمن ما اعتقد كثر أن فرنسا خسرته منذ زمن بعيد، أي قيم التقدم والإنسانية والتنوير، قيم الحرية والعدالة والأخوة. وهو كان يعرف انه إذا كان ثمة من يمكنه ضمان هذه القيم فهم المثقفون المفكرون والفنانون الذين لهم في فرنسا تاريخ طويل.

ومن هنا رأيناه على العكس من كل المرشحين الآخرين، يخاطب أول من يخاطب أولئك الذي يُعتبرون دائماً ضمير فرنسا وضامني قيمها، وكان من الواضح لمن راقب الأمور جيداً، أن ذلك الشاب الطموح، بدا مفعماً بالصدق وهو يخاطبهم غير خائف أن يدفع تحلّقهم حوله، الناخبين بعيداً عنه.

لم يخش في خضمّ ذلك الإصرار على تمسكه بقيم يعرف جيداً أنها هي التي تشكل مركز القلب في العقل الفرنسي الحر، بما في ذلك إعلانه خلال زيارته للجزائر أن حرب فرنسا الكولونيالية عليها كانت جريمة ضد الإنسانية. ولم يخش زيارة ضواحي البؤس وإعلانه أن الإرهاب ليس قضية أمنية، وتأكيده أن فرنسا ليست على موعد مع حرب أهلية ضد مواطنيها المسلمين.

لوهلة بدا هذا الخطاب غير شعبيّ على الإطلاق. لكن الذين يعرفون فرنسا الحقيقية مثله، ومن بينهم الجسم الثقافي الفرنسي في ألمع رجاله يمينيين كانوا أو يساريين ووسطيين طبعاً، أدركوا إلى صدقه أنه يصوّب جيداً.

فالاستثناء الفرنسي، يعلمنا دائماً أن في فرنسا، وعلى عكس أمم كثيرة في هذا العالم البائس، لا تزال للمثقفين كلمتهم، وحين يتبنى المثقفون، في إجماع مدهش كالذي تحلق من حول ماكرون، مرشحاً يدركون صدقه وتمسكه بالقيم، ثمة جمهور عريض سوف يتلقى الفكرة، ويعطي ذلك المرشح فرصته.

خاصة إذا كان هذا المرشح يعرف فرنسا حقاً، ويعرف أن الثقافة الإنسانية لا تزال لها في فرنسا مكانتها وكلمتها. الاستثناء الذي يضيف إلى العوامل التي أحصاها كثر ومكّنت ماكرون من أن يصبح رئيساً لفرنسا، كون المثقفين وقفوا إلى جانبه علناً، وسوف يشكلون بالتأكيد ضمانة لتمسكه بالدرب التي خطّها لنفسه، وتجاوب معها قسم كبير من الشعب الفرنسي الذي كان هو من حسم الأمر.