تثير العلاقة بين الإسلام ونظم الحكم في عالمنا العربي إشكاليات حقيقية وكبيرة منذ عقود طويلة، وهو الأمر الذي استفحل بشدة في ظل تنامي وانتشار الجماعات العنيفة والإرهابية التي تنسب نفسها زوراً وبهتاناً للإسلام.

الصورة التي بدت بها هذه المجموعات غطت على حقيقة ظلت ثابتة في المجتمعات العربية على اختلافها، وهي أن الإسلام لم يكن أبداً وافداً جديداً أو طارئاً على هذه المجتمعات وشعوبها، فقد ظل الإسلام بمعانيه القيمية والثقافية والروحية السامية حاضراً طوال تاريخه ذي القرون الأربعة عشر، حتى في ظل نظم سياسية شاع عنها وأشيع حولها أنها ليست إسلامية بل ودخل بعضها في صدامات واسعة مع قوى سياسية تنسب نفسها للإسلام، مثلما كان الحال بالنسبة لنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع جماعة الإخوان.

هذا الانطباع الشائع عن علاقة نظام الرئيس عبد الناصر بالإسلام يعود في معظمه إلى ما جرى في بداية حكمه ــ وتحديداً في عام 1954 ــ من صدام واسع وحاد مع جماعة الإخوان بعد محاولتها اغتياله، وأيضاً إلى توجهه الفكري والسياسي ذي الطبيعة الاشتراكية المرتبط بانحياز عربي وحدوي.

والحقيقة أن هناك مؤشرات عدة على خطأ هذا الانطباع. فمن ناحية، اتخذ هذا النظام سياسات وإجراءات غير مسبوقة في مصر لدعم المشهد الإسلامي الوسطي.

ومن ناحية ثانية، أقدم نظام عبد الناصر على دمج قطاع مهم ورئيسي من قيادات وأعضاء الإخوان الذين تخلوا عن الجماعة وفكرها ومنهجها وليس عن الإسلام، بداخل هيئاته ومؤسساته الحكومية والسياسية وفى مستويات عليا منها مع استمراره في الاحتفاظ بالكتلة الأكبر منهم المصرة على انتهاج العنف والتطرف، بداخل السجون والمعتقلات لسنوات طوال.

وبالتالي، لم يكن عبد الناصر ونظامه على المستوى العملي ضد الإسلام، بل كان بوضوح وحزم ضد جماعة الإخوان.

أما على المستوى الفكري، فإن الوثائق الرئيسية التي تبناها ذلك النظام للتعبير عن توجهاته الداخلية والخارجية، تؤكد أنه لم يكن أبداً بعيداً عن الإسلام بمعانيه الإيجابية الوسطية أو معادياً له، بل ربما كان العكس هو الصحيح.

في وثيقة عبد الناصر الفكرية الأولى، فلسفة الثورة (1953)، يحدد الدوائر الثلاث التي يرى أن مصر تنتمي إليها والتي يجب أن يتوزع بينها دورها الخارجي، فتأتي الدائرة الإسلامية في الموقع الثالث، ويذهب عبد الناصر في الوثيقة نفسها في تفسيره ورؤيته للإسلام كقوة تحررية وتوحيدية لجموع المسلمين عبر العالم الإسلامي إلى اعتبار بعض أركان وطقوس الإسلام الرئيسية مثل الحج، بمثابة مؤتمر سياسي دوري يجتمع فيه المسلمون من مختلف دولهم وفئاتهم وأعمارهم، ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطاً عريضة لتعاونهم معاً حتى يحين موعد اجتماعهم من جديد بعد عام.

يؤكد عبد الناصر في الوثيقة نفسها على الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يحققها تعاون هؤلاء المسلمين جميعاً، إذا تعاونوا معاً تعاوناً لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصلية بما يكفل لهم ولإخوانهم في العقيدة قوة غير محدودة.

في الوثيقة الرئيسية الثانية لعبد الناصر، أي ميثاق العمل الوطني (1962)، يكتسب الإسلام بالإضافة إلى معانيه التحررية والتعبوية والتوحيدية معنى تقدمياً، باعتباره دين العدالة والمساواة بين البشر، فمنذ بداية الميثاق، يرى عبد الناصر أن أحد عوامل نجاح نضال الشعب المصري والشعوب العربية والمسلمة الأخرى.

هو وجود إيمان لا يتزعزع بالله ورسله ورسالاته المقدسة التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسانية في كل مكان وزمان، ويتطرق الميثاق في مواضع عدة منه وبخاصة الباب السابع إلى الأدوار العظيمة التي قام به الشعب المصري في إطار التاريخ الإسلامي وعلى هدى من الرسالة المحمدية من أجل الدفاع عن الحضارة والإنسانية.

ويؤكد عبد الناصر في الميثاق بلغة أكثر وضوحاً المعنى التقدمي للدين عموماً وللإسلام خصوصاً بتأكيده أن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحرية والحياة، بل إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو الفرصة المتكافئة لكل إنسان واختياره الحر.

وفى الوثيقة الثالثة الرئيسية، أي بيان 30 مارس 1968 الذي قدمه عبد الناصر بعد هزيمة يونيو 1967 القاسية، يعود الإسلام مرة أخرى لديه لكى يكتسب معاني تحررية نضالية ويبدو كقوة دافعة مهمة للصمود أمام العدوان الذي وقع على الأمة وحافزاً رئيسياً لدحره وتجاوزه.

يمضي عبد الناصر في وثيقته الثالثة الرئيسية لكى يجعل من دعم القيم الروحية والدينية واحدة من المهام الضرورية من أجل تجاوز الهزيمة وتحقيق النصر ورد العدوان على الشعب والأمة، ويدمج في نهاية الوثيقة بين إرادة الشعب المصري والشعوب العربية في تحقيق ذلك النصر وبين إرادة الله التي هي حسب تعبيره إرادة الحق التي هي فوق كل إرادة.