ما نعرفه اليوم عن تاريخ صناعة الزجاج في الزمن القديم وصل إلينا من أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار، كما من كتابات رحالة ذاك الزمان.

بتنا نعلم أنه في القرنين الثالث عشر والرابع عشر شكلت سوريا مركز ثقل المواد الجيدة، لا سيما في مدينتي حلب ودمشق.

وصف ابن بطوطة دمشق بأنها معقل صناعة الزجاج بعد ترحاله إليها في ثلاثينيات القرن، إلا أن سوريا لم تكن الوحيدة المعروفة بإنتاج الزجاج، الذي كان يصدر بكميات هائلة منذ القرن الثامن في كل من مصر وفلسطين والعراق والأندلس.

لقد توارث المسلمون صناعة الزجاج الروماني الشهير القائمة في سوريا ومصر، وعملوا على تطويرها بإضافة دمغ مضاعف، فنقشت تصاميم الزينة على الزجاج الحار، وظهرت الأشكال المتعددة للزجاج المنفوخ المزين بالخيوط، في امتداد للتقاليد الرومانية والبيزنطية، كما ظهر نفخ الزجاج على نحو يعمد من خلاله صانع الزجاج إلى النفخ في الزجاج السائل ودمجه مع قوالب زجاجية أخرى جاهزة.

شهدت الفترة بدء عملية الحفر على الزجاج وتقطيعه إما يدوياً وإما بواسطة آلات خاصة مزودة عجلات، وأخذت الصناعة بالتطور إلى حدّ الإتقان المبدع، واتسعت لائحة المنتجات الزجاجية لتشمل صناعة القوارير والزجاجيات والزهريات والفناجيل.

وبلغ الزجاج السوري مع حلول القرن الثالث عشر من الجودة ما دفع التجار والمشترين للتهافت على اقتنائه، وقد كشفت أعمال التنقيب الحديثة عن وجود قطع زجاج سوري مصقول يعود تاريخها إلى 700 عام في كل من السويد وجنوبي روسيا وصولاً إلى أقاصي الصين.

اشتهرت مدينة سامراء العراقية كذلك بزجاجها، وبرزت من ضمن أكثر الاكتشافات جمالاً «الميلفيوري» أو الزجاج الفسيفسائي، الذي كان مختلفاً عن الأنماط السابقة لا سيما لجهة الألوان والتصاميم المميزة. وبرزت إضافة إلى ذلك من بين الاكتشافات الأروع في سامراء إناء يعود للقرن التاسع مصنوع بكليته من الزجاج الأبيض.

واشتهر صانعو الزجاج السامرائيون كذلك بإتقانهم صناعة القوارير الصغيرة كتلك المستخدمة لحفظ العطور، وأتت بعضها على شكل إجاصات باللونين الأزرق والأخضر، رباعية الأضلع ومزودة بعنق شبه أسطواني، واتسمت تلك التصاميم بأنها كانت أثقل وزناً، ترافقت عملية صقلها غالباً مع نقوش تزيينية. وعُثر في سامراء على بقايا جميلة من الأواني الزجاجية المصقولة تعود للقرن التاسع، وتتميز بتصاميمها الأنيقة.

وكشفت أعمال الحفر والتنقيب عن الكثير من القطع الزجاجية في الفسطاط أو مصر القديمة، التي شكلت منذ القرن الثامن وحتى أواخر العصور الوسطى مركز إنتاج الزجاج. وتعود القطع الأقدم تاريخاً إلى العام 708، وهي على شكل أوزان شبيهة بالقطع النقدية محفور عليها أسماء القادة والمسؤولين الرسميين لذاك الزمان.

وظهرت تلك بألوان عدة تراوحت بين الأخضر الغامق والفاتح والفيروزي، إضافة إلى الأبيض والأرجواني. وازدانت بعض أكثر القوارير الزجاجية المصرية إتقاناً وتعقيداً بهيئة براقة، حيث كانت تضفى اللمعان بطلاء أكسيد النحاس أو الفضة على سطح الأواني، وتعريضها لدرجات حرارة مرتفعة تصل إلى نحو 600 درجة مئوية.

لم تقتصر صناعة الزجاج على الشرق فقد كان الطلب على الزجاج في الأندلس يبلغ الزخم عينه كما الفخار، وشكلت مدن مرسيه ومالقة وألمرية الإسبانية القديمة المركز الأساسي لصناعة الزجاج في حين اكتسبت الأخيرة شهرة عالمية.

وقد قيل إن التقنية المستخدمة في قص البلور ابتكرها «عباس بن فرناس» في القرن التاسع في قرطبة، وهو عالم ومخترع أندلسي وأحد شعراء بلاط عبد الرحمن الثاني، رابع أمراء الدولة الأموية ومحمد الأول. وتمكن ابن فرناس من فك شفرات الكتابات الأكثر تعقيداً، كما كانت له محاولات في الطيران بواسطة أجنحة اصطناعية.

أما في ما يتعلق بالزجاج، فقد تعمّق ابن فرناس بفهم خصائصه العلمية فأسهم في وضع التجارب الأولى الخاصة بالعدسات وفكرة تكبير حجم خط النصوص، وذلك عن طريق إنشاء صناعة الكريستال الأندلسي القائمة على الحجارة المستخرجة من المناجم.

وهكذا فقد سافر الزجاج من أفران صهر سوريا ومصر والعراق والأندلس ليجوب العالم، ويزين بيوت الناس. ويكتسب الزجاج السوري والمصري في أيامنا هذه قيمة كبيرة نظراً لجودته وتفوقه على أي من إنتاجات أوروبا الغربية.

لا يزال هذا النوع من الفنون يوجد حتى اليوم في المتاحف أو من ضمن مجموعات التحف الخاصة الموزعة على العواصم الأوروبية الأساسية.